الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الندم يأكلني بسبب ما اقترفته في رمضان من معاصي!

السؤال

اسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أعيش في حالة خوف وهلع شديد، بسبب التفكير بغضب الله في ما اقترفته من ذنب عظيم، فأنا بعمر ثلاثين عاماً، وكنت سابقًا مدمناً للإباحية، والعادة السرية، وكثيرًا ما أختلي بنفسي، وسولت لي نفسي القبيحة -قبل سنين عديدة- أن أمارس العادة السرية في نهار رمضان، ورأيت بعض الصور المحرمة كذلك -والعياذ بالله- ولا أعرف كم رمضاناً فعلت ذلك، ولكن قدرته بعشرة رمضانات مع الاحتياط، ولا أعرف كم يوماً فعلت هذا الفعل القبيح!

حاليًا استقمت و-لله الحمد-، ولا أترك صلاة الجماعة في المسجد، وأواظب على النوافل، ومتمسك بأذكاري، وقراءة القرآن، وتعافيت من سم الإباحية، والعادة السرية، وأسأل الله أن يثبتني على ذلك.

ينتابني شعور مرهق شديد بأني طردت من رحمة ربي، وبأني كل ما أجتهد فيه الآن لن ينفعني و-العياذ بالله- بسبب ما اقترفته من ذنب عظيم، الندم والحسرة ترهقني كثيرًا، وكسرتني بشدة، لدرجة أنها غيرتني، حتى من ممارسة نشاطات يومي، صرت خائفاً من عذاب ربي كثيرًا، وأنشد الرشاد والنصيحة منكم.

جزاكم الله خيراً في توجيهي، وأنا مستعد لقضاء الأيام التي أفطرتها تلك السنين، وإن كانت عشرة رمضانات كاملة، وفعلاً قد بدأت في ذلك، وإذا كان هناك أمر خفي علي لكي أسارع إلى مرضاة ربي، فأتمنى إرشادي.

جزاكم الله خيراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك –ولدنا الحبيب– في استشارات إسلام ويب، ونهنئُك بما تفضّل به الله عليك وأنعم، وذلك بأن هداك سبحانه وتعالى للتوبة، والرجوع إليه سبحانه، وهذا من عظيم فضل الله تعالى عليك، ونرجو -إن شاء الله- أن يكون علامة على حُبِّه لك، فإن الإنسان لا يستطيع أن يتوب إلَّا بعد أن يتوب الله تعالى عليه ويرضى، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في أواخر سورة التوبة: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118]، فتوبة الله تعالى على العبد سابقة لتوبة هذا العبد إلى الله، فنرجو أن تكون هذه التوبة علامة على توفيق الله تعالى لك، وحُبِّه لك ولرجوعك إلى طريقه.

واعلم –أيها الحبيب– بأن الله سبحانه وتعالى لكرمه وواسع رحمته وعظيم فضله يفرح بتوبة المؤمن، وهذا الفرح ليس لأنه محتاج لهذا المؤمن وإلى طاعته، ولكنّه فرحُ الكريم، فالكريم يفرح إذا جاءه الضِّيفان، والله تعالى يفرح إذا تاب إليه الإنسان ليُعطيه ويُكرمه ويُثيبه، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفرح العظيم فقال: (‌لَلَّهُ ‌أَفْرَحُ ‌بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَه، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ).

هذا الحديث العظيم يُبيِّنُ لنا رحمة الله تعالى بهذا الإنسان، وإرادته الخير له، فينبغي أن تستبشر –أيها الحبيب– بفضل الله تعالى ورحمته، واعلم بأن الإنسان إذا تاب فإن الله تعالى يُبدِّلُ سيئاته حسنات، والتوبة تمسح ما قبلها من ذنوب من صحائف الأعمال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (‌التَّائِبُ ‌مِنَ ‌الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)، والله تعالى يقول في كتابه الكريم عن عباده التائبين: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 70].

هذه التوبة تمسح ما قبلها من الذنوب مهما كانت تلك الذنوب، كما قال الله تعالى في القرآن العزيز: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].

قد تاب الله تعالى على الكفّار الذين كانوا يكفرون به ويصدُّون عن سبيله ويُقاتلون نبيّه، وقتلوا المؤمنين أولياء الله، وسجدوا للأصنام، ومع ذلك تاب الله عليهم وصاروا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاروا أفضل هذه الأُمّة وخيرها، فما عسى أن تكون ذنوبُك أنت أمام هذه الذنوب العظيمة! فلا ينبغي أبدًا أن تفتح مجالاً للشيطان ليتسرَّب إلى قلبك ويغرس فيه اليأس والقنوط، وهو يتمنّى أن يصل الحزن إلى قلبك ليصل إلى هذه الغايات التي وصلت أنت إلى أوائلها ومبادئها، وهو حريصٌ على أن يُعطّلك ويصدّك عن الصلاة وعن ذكر الله وعن الطاعات، فقد قعد لك في كل طريقٍ تريد أن تسلكه لتصل إلى رضوان الله تعالى وإلى جنّته.

أحسن ظنّك بالله تعالى، فإن الله تعالى غفور رحيم، وهو غنيٌ حميدٌ، ليس بحاجة إلى طاعة العباد، ولكنّه يختبرهم، فإذا أذنب الإنسان ثم تاب وجد ربَّه رؤوفًا رحيمًا، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء: 64]، بل قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110]، وقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17]، وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25] .

أمَّا عن الصيام –أيها الحبيب– فلا تصُم إلَّا ما غلب على ظنّك أنك قد أفطرته من الأيام، فلا تسمح للوسواس أن يُسيطر عليك ويُرهقك، ويُكلّفك قضاء أيام لم تتيقّن أنك أفسدتها، فالأصل أنك صُمت هذه الأيام، ولكن إذا غلب على ظنّك أنك أفطرت عددًا مُعيَّنًا فاقضِ بقدر ذلك العدد فقط، ومن العلماء مَن يرى بأن مَن أفطر عامدًا لا قضاء عليه، وإذا كانت الوساوس تُحاول أن تُسيطر عليك وتصدّك عن الصلاة وعن الذكر وعن الطاعات؛ فيجوز لك أن تفعل بهذا الرأي، وأن تُكثر من الأعمال الصالحة، لتعوّض ما فاتك.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتولى أمرك ويُصلح شأنك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً