خلاصة الفتوى:
أرواح الأنبياء (المتوفين) دون أجسادهم هي التي في الجنة، ومعها أرواح الشهداء والصالحين المتوفين من أمتنا والأمم السابقة كذلك، أما الأجساد فهي جميعا في الأرض بما فيها أجساد الأنبياء، وأن أول من يدخل الجنة ويتنعم فيها بروحه وجسده هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال الله تعالى في كتابه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ {الزمر:30}
وجاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله بسند صححه الألباني رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعني وقد بليت قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
وروى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مررت على موسى ليلة أسري بى عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "الروح": الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء.
وقال أيضا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد ولم تبعث قبل ذلك؛ إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي أن الله حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله .... هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء، وقد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلى في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به، بحيث يصلى في قبره ويرد سلام من سلم عليه وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان.
وقال ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت فمنها : أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وهم متفاوتون في منازلهم.
وجاء في كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة: والحق أن الأنبياء ماتوا إلا ما وردت به النصوص في حق عيسى عليه السلام وما اختلف فيه من أمر إدريس عليه السلام . وأما من عداهما فقد دلت النصوص على موتهم قطعا ولا شك في ذلك . وأما ما جاء في الأحاديث من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن رؤية الرسل ليلة المعراج وما جاء في معناه من النصوص الأخرى فحق ولا تعارض بين النصوص في ذلك . وذلك أن الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم هي أرواح الرسل مصورة في صور أبدانهم ، وأما أجسادهم فهي في الأرض إلا من جاءت النصوص برفعهم ، وهذا هو الذي عليه الأئمة المحققون من أهل السنة.
فتدل هذه النصوص وغيرها على أن أجساد الأنبياء موجودة في الأرض محفوظة قد حرم الله على الأرض أن تأكلها، وأن أرواحهم في أعلى عليين من الجنة وأنها – أرواحهم - هي التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج مصورة في صور أبدانهم، أما أجسادهم الحقيقية فهي في الأرض لصحيح وصريح الأحاديث الدالة على ذلك؛ إلا ما جاءت النصوص بأنه رفع إلى السماء بجسده وروحه جميعا وهو عيسى عليه السلام.
ولا يتعارض وجود الأرواح في الجنة مع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لها في السموات السبع ولا مع صلاة موسى عليه السلام في قبره إذ يتصور أن تنتقل الروح من مكان إلى مكان؛ خاصة وأن شأن الأرواح غير شأن الأبدان.
قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً {الإسراء:85}
وأما أول من يبعث وأول من يدخل الجنة، فقد جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح من حديث عمرو بن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر، وإني آتي باب الجنة فآخذ بحلقتها فيقولون من هذا فأقول أنا محمد فيفتحون لي فأدخل فإذا الجبار عز و جل مستقبلي ..... إلخ.
وبذلك يُعلم أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وهو أول من يدخل الجنة (بجسده وروحه جميعا) يوم القيامة؛ فيكون بذلك أول من يتنعم بالجنة نعيما حقيقيا كاملا، إذ أن تنعم الصالحين عموما والأنبياء خصوصا في حياة البرزخ إنما هو نعيم ناقص لأنه تنعم بالأرواح دون الأبدان وإنما تمام النعيم إنما يكون باجتماع نعيم الأرواح والأبدان جميعا.
قال ابن القيم رحمه الله: تنعم الأرواح بالجنة في البرزخ شيء وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيء آخر، فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث، ولهذا قال: "تعلق في شجر الجنة" أي تأكل العلقة، وأما تمام الأكل والشرب واللبس والتمتع فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة.
وعلى أية حال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الأنبياء في حادثة الإسراء والمعراج فيما بين السماء الدنيا والسماء السابعة كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة؛ ومعلوم أن الجنة إنما هي فوق السماء السابعة مصداقا لقول الله تعالى في سورة النجم: عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "حادي الروح": ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى. وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد إليه فيقبض منها وقال تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو الجنة وكذلك تلقاه الناس عنه. وعن ابن عباس أنه قال: الجنة فوق السماء السابعة ويجعلها الله حيث شاء يوم القيامة.
وبذلك يعلم أن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في السماء – بمن فيهم عيسى عليه السلام - لم يكن في الجنة وإنما دون الجنة، ولا يتعارض هذا مع أن أرواح الأنبياء المتوفين في الجنة حيث يتصور أن أرواح الأنبياء خرجت من الجنة لتقابل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترجع إلى حيث مستقرها في الجنة، وأن مستقر عيسى عليه السلام (بجسده وروحه) إنما هو في إحدى السموات السبع لا في الجنة.
فالحاصل أن أرواح الأنبياء (المتوفين) دون أجسادهم هي التي في الجنة ومعها أرواح الشهداء والصالحين المتوفين من أمتنا والأمم السابقة كذلك، أما الأجساد فهي جميعا في الأرض بما فيها أجساد الأنبياء، وأن أول من يدخل الجنة ويتنعم فيها بروحه وجسده هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتحصل الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وأخيرا يجدر تنبيه الأخت السائلة إلى أمرين:
الأول: أن أمور الغيبيات من حياة البرزح واليوم الآخر قد تحتار فيها العقول ولكنها لا تحيلها؛ فهي لا تقاس على الواقع المحسوس في الحياة الدنيا لما بين الحياتين من بون شاسع، إذ كيف تقاس حياة الجزاء على حياة العمل وحياة الخلود على حياة الفناء!.
قال ابن القيم رحمه الله: الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته بل أخبارهم قسمان، أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر. الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا.
وقال أيضا: الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا، وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم.
وقال ابن حجر رحمه الله: أمور الآخرة لا تدرك بالعقل ، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة.
الأمر الثاني: أن أمور الغيبيات لا يخاض فيها إلا بنصوص الوحي المفهوم بكلام العلماء الراسخين من السلف إذ الخوض فيها بلا علم باب هلاك عظيم لأنه يؤدي إلى الكذب والتقول على الله.
وانظر للفائدة – إن شئت - الفتاوى التالية : 25610 ، 74719 ، 101684 ، 31047.
والله أعلم.