الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          الأصل الرابع

          في المحكوم عليه وهو المكلف وفيه خمس مسائل

          المسألة الأولى

          اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ; لأن التكليف وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة .

          ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب ، دون تفاصيله من كونه أمرا ونهيا ، ومقتضيا للثواب والعقاب ومن كون الآمر به هو الله تعالى ، وأنه واجب الطاعة ، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز ، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ، ويتعذر تكليفه أيضا [ ص: 151 ] إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق ; لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب ، فهو متوقف على فهم تفاصيله [1] .

          وأما الصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز ، غير أنه أيضا غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى ، وكونه متكلما مخاطبا مكلفا بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى ، وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف .

          فنسبته إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق بفوات شرط التكليف وإن كان مقاربا لحالة البلوغ ، بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة .

          فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب لتكليفه بعد لحظة ، غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفيا ، وظهوره فيه على التدريج ، ولم يكن له ضابط يعرف به ، جعل له الشارع ضابطا وهو البلوغ ، وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليه .

          ودليله قوله عليه السلام : " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق " [2] .

          فإن قيل : إذا كان الصبي والمجنون غير مكلف ، فكيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات ، وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة ؟

          قلنا : هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي والمجنون ، بل بماله أو بذمته .

          فإنه أهل للذمة بإنسانيته المتهيئ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ ، بخلاف البهيمة والمتولي لأدائها الولي عنهما ، أو هما بعد الإفاقة والبلوغ .

          وليس ذلك من باب التكليف في شيء .

          وأما الأمر بالصلاة المميز فليس من جهة الشارع ، وإنما هو من جهة الولي لقوله عليه السلام : " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " و [3] ، ذلك لأنه يعرف الولي ويفهم خطابه بخلاف الشارع على ما تقدم .

          [ ص: 152 ] وعلى هذا فالغافل عما كلف به ، والسكران المتخبط لا يكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكره أيضا ، إذ هو في تلك الحالة أسوأ حالا من الصبي المميز فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارع وحصول مقصوده منه ، وما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله في تلك الحال .

          فتخريجه كما سبق في الصبي والمجنون ، ونفوذ طلاق السكران ففيه منع خطاب الوضع والإخبار ، وإن نفذ فليس من باب التكليف في شيء ، بل من باب ما ثبت بخطاب الوضع والإخبار يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه ، كما جعل زوال الشمس وطلوع الهلال علامة على وجوب الصلاة والصوم .

          وكذلك الحكم في وجوب الحد عليه بالقتل والزنى وغيره .

          وقوله تعالى : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، وإن كان من باب خطاب التكليف بنهي السكران ، فليس المقصود منه النهي عن الصلاة حالة السكر ، بل النهي عن السكر في وقت إرادة الصلاة .

          وتقديره إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا .

          كما يقال لمن أراد التهجد : لا تقرب التهجد وأنت شبعان .

          أي لا تشبع إذا أردت التهجد ، حتى لا يشتغل عليك التهجد .

          وهو وإن دل بمفهومه على عدم النهي عن السكر في غير وقت الصلاة ، فغير مانع لورود النهي عن ذلك في ابتداء الإسلام حيت لم يكن الشرب حراما وإن كان وروده بعد التحريم وفي حالة السكر ، لكن يجب حمل لفظ السكران في الآية على من دب الخمر في شئونه وكان ثملا نشوانا ، وأصل عقله ثابت ; لأن ذلك مما يئول إلى السكر غالبا .

          والتعبير عن الشيء باسم ما يئول إليه يكون تجوزا كما في قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ، وقوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ) ; فيجب حمله على كمال التثبت على ما يقال إذ هو غير ثابت حالة الانتشاء ، وإن كان العقل والفهم حاصلا .

          وذلك كما يقال لمن أراد فعل أمر وهو غضبان : لا تفعل حتى تعلم ما تفعل أي حتى يزول عنك الغضب المانع من التثبت على ما تفعل ، وإن كان عقله وفهمه حاصلا .

          ويجب المصير إلى هذه التأويلات ، جمعا بين هذه الآية وما ذكرناه من الدليل المانع من التكليف .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية