فصل .
123 - ذهبت طوائف من الإمامية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما ، ومنصب الإمامة يقتضي العصمة كالنبوة .
124 - والقول في العصمة وتقسيمها وتفصيلها وتحصيلها يطول ، ولو ذهبنا نصف معناها ، لملأنا في مغزاها أوراقا ، والإمامة كثيرة التفنن عظيمة التشعب : فتارة يرتبط الكلام فيها بقواعد العقائد ، وطورا يتعلق بأحكام الأخبار في انقسامها ، وتارة يناط بالشريعة وأحكامها . فلو التزم الخائض في الإمامة تقرير كل ما يجري في أدراج الكلام ، لطال المدى ، ولغمض مقصود الكتاب .
[ ص: 92 ] 125 - والمقدار المتعلق بمقصدنا الآن أن الإمام لا تجب عصمته عن الزلل والخطل . ثم سيأتي باب معقود في الإمام إذا فارق دينا ، واحتقب وزرا .
126 - والقول المقنع في ذلك أن الإمامية لم يروا للإمامة مستندا ، غير نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أن الإثني عشر إماما نص عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونص بعضهم على بعض ، وعمر الدنيا ينقرض بانقراضهم ، وآخرهم المهدي ، يقتدي به عيسى ابن مريم - عليه السلام - في ترهات وخرافات ، ينبو عن قبولها قلب كل عاقل . ثم زعموا أن الرسول لا ينص إلا على معصوم في علم الله تعالى .
127 - ونحن قد أبطلنا بالقواطع المصير إلى ادعاء النصوص وحصرنا مأخذ الإمامة في الاختيار ، وإذا تقرر ذلك ، ففيه بطلان اشتراط العصمة ; فإن الذين يختارون إماما لا يطلعون على سريرته في الحال ، فكيف يضمنون عصمته في الاستقبال عن [ ص: 93 ] الذنوب ؟ ولا مطلع على العيوب . وهذا فيه مقنع بالغ .
128 - على أنا باضطرار من عقولنا نعلم أن عليا وابنيه الحسن والحسين وأولادهم - صلوات الله عليهم - ما كانوا يدعون لأنفسهم العصمة والتنقي من الذنوب ; بل كانوا يعترفون بها سرا وعلنا ، ويتضرعون إلى الله مستغفرين خاضعين ، خانعين ، فإن صدقوا ، فهو المبتغى ، وإن تكن الأخرى ، فالكذب خطيئة من الخطايا يجب الاستغفار والتوبة منها .
129 - فمن أبدى مراء في اعترافهم بالذنوب ، فقد جاحد ضرورات العقول ، ومن اعترف بذلك ، واعتقد عصمتهم ، فقد نسبهم إلى الخلف عمدا ، والكذب قصدا ، وهذا إثبات ذنب في مساق ادعاء التبري من الذنوب .
130 - فإن قالوا : كان الأنبياء يستغفرون أيضا مع وجوب العصمة لهم . قلنا : مذهبنا الذي ندين به ، لا تجب ، وآي القرآن في أقاصيص النبيين [ ص: 94 ] مشحونة بالتنصيص على هنات كانت منهم ، استوعبوا أعمارهم في الاستغفار منها . عصمة الأنبياء عن صغائر الذنوب
131 - والإمامية أوجبوا ، فإن قالوا : الإمام شوف الخلق ، ومنه تلقي الجزئي والكلي في دين الله ، وبه ارتباط عرى الإسلام ، فلو كان عرضة للزلل ، لبطل غرض الإمامة ، ولما حصلت الثقة به في أقواله وأفعاله ، ولم تؤمن عثراته في الدماء والفروج ، وسد الثغور ، والقيام بعظائم الأمور ، ولو جاز ذلك فيهم ، لما وجبت العصمة للمرسلين والنبيين - صلوات الله عليهم أجمعين . عصمة الأئمة عن الصغائر والكبائر
132 - قلنا : ما ذكرتموه باطل من وجوه ، منها : أن الإمام لا يتأتى منه تعاطي مهمات المسلمين في المشارق والمغارب ، ولا يجد بدا من استخلاف الولاة ، ونصب القضاة ، وجباة الأخرجة والصدقات ، وغيرها من أموال الله ، والذي يتولى الإمام من أمر المسلمين بنفسه الأقل ، ثم لا تجب عصمة ولاة [ ص: 95 ] الأمر حيث كانوا في أطراف خطة الإسلام . وفيه بطلان ما ذكروه فما تغني عصمته ، ولا يشترط عصمة مستخلفيه .
133 - وقد ذهب طوائف من غلاة الإمامية إلى وجوب العصمة لكل من يتعلق طرف من مصالح الإمامة به ، حتى طردوا ذلك في ساسة الدواب ، والمستخدمين في المستحقرات والعبيد .
134 - ومن انتهى تجرؤه إلى هذا ، فقد كشف جلباب الحياء عن وجهه ، وتعلق بما هو حري بأن يعد من السخرية والهزء ، والتلاعب بالدين ، ثم يلزم منه عصمة رواة الأخبار حتى لا يفرض منهم زلل ، وعصمة الشهود المقيمين للشهادات في الحكومات . وعصمة المفتين الذين إليهم رجوع العاملين في المشكلات وحل المعوصات .
135 - ثم من عجيب الأمر أن هؤلاء يقولون : التقية ديننا ودين آبائنا ، ويوجبون على الأئمة أن يبوحوا بالكذب الصراح ، [ ص: 96 ] ويبدوا خلاف ما يعتقدون ، وإذا كانوا كذلك ، فليت شعري فكيف يعتمدون في أقوالهم ، مع تجويز أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون ، وغايتهم في اشتراط العصمة اتباع الأئمة فيما يأتون ويذرون ، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم كيف تجب العصمة في أفعالهم ؟ ولئن جاز الكذب في القول تقية ، فليجز الزلل في العمل لمثل ذلك .
وأقدار هؤلاء تقل عن الازدياد على هذا المبلغ في قبائحهم ، وبث فضائحهم .
136 - وأما الأنبياء ، فإنما تجب عصمتهم لدلالات المعجزات على صدق لهجتهم ، ولو لم يتميز مدعي النبوة بآية باهرة ، وحجة قاهرة عن الممخرقين الكذابين ، لما استقر عقد في نبوة ، فمستند النبوات المعجزات إذا .
137 - وأما الأئمة ، فقد صح من دين النبي إمامتهم مع ما يتعرضون له من إمكان الهفوات ، فإنا أثبتنا صحة الاختيار ، [ ص: 97 ] ويستحيل معه علم المختارين في مطرد العادات بأحوال المنصوبين للزعامة ، فاستناد الإمامة إلى النبوة ، ومستند النبوة المعجزة ، فلما تعلق مستند التبليغ بالنبي ، لم يكن لتميزه ممن عداه بد من آية . والأئمة يبينون أو يفتون أو يتبعون فروعا في شرائع الرسل ، فإذا دل دليل على انتصابهم مع التعرض للزلل ، ولم يكن في العقول ما يأبى ذلك ، ويحيله تلقيناه بالقبول ، ونزلناه منزلة الشهود والمفتين وسائر ولاة المسلمين ، وحماة الدين .
وهذا المبلغ كاف في مكالمة هؤلاء ، فهم أذل قدرا من أن ينتهى الكلام معهم إلى حدود الإطناب . وهذا نجاز الباب .