الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 523 ] المرتبة الرابعة

        ( الباب الرابع ) في خلو الزمان عن أصول الشريعة .

        838 - قد مضى القول فيه إذا درست العلوم بتفاصيل الشريعة ( وبقيت أصولها في الذكر ، ومضمون هذه المرتبة تقدير دروس أصول الشريعة .

        وقد ذهبت طوائف من علمائنا إلى أن ذلك لا يقع ; فإن أصول الشريعة تبقى محفوظة على ممر الدهور ، إلى نفخة الصور ، واستمسكوا بقوله تعالى : ( ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ) .

        839 - وهذه الطريقة غير مرضية ، والآية في حفظ القرآن عن التحريف ، والتبديل والتصريف ، وقد وردت أخبار في انطواء الشريعة ، وانطماس شرائع الإسلام ، واندراس معالم الأحكام ، بقبض العلماء ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " سيقبض العلم حتى يختلف الرجلان في فريضة ، ولا يجدان من يعرف حكم الله تعالى فيها " .

        [ ص: 524 ] فالقول المرتضى في ذلك أن دروس أصول الشريعة في مستقر العادة في الآماد الدانية ، فإن انقرض عمر الدنيا في مطرد العرف ، وقامت القيامة في الأعصار القريبة .

        فلا حاجة إلى هذه التقديرات ، وإن تطاول الزمن ، فلا يبعد في مطرد العرف انمحاق الشريعة أصلا أصلا ، حتى تدرس بالكلية وعلى هذا التدريج [ تبتدأ ] الأمور الدينية والدنيوية ، وتزيد حتى تبلغ المنتهى ، ثم تنحط وتندرس ، حتى تنقضي وتنصرم كأن لم تعهد .

        841 - فإن فرض ذلك قدمنا على غرضنا من ذلك صورة . وهي أن طائفة في جزيرة من الجزائر ، لو بلغتهم الدعوة ، ولاحت عندهم دلالة النبوة ، فاعترفوا بالوحدانية والنبوة ، ولم يقفوا على شيء من أصول الأحكام ، ولم يستمكنوا من [ المسير ] إلى علماء الشريعة ، فالعقول على مذاهب أهل الحق لا تقتضي ( 277 ) [ ص: 525 ] التحريم والتحليل ، وليس عليها في مدرك قضايا التكليف تعويل .

        842 - وهذا الأصل من أعظم الطوام وهو مزلة الأقدام ، ومضلة معظم الأنام ، ولو أوغلت فيها لأربى مفاتيح الكلام في حواشيها على مقدار حجم الكتاب ، فالوجه الاكتفاء بنقل [ المذاهب ] ، وإحالة من يحاول الوقوف على [ مضائق ] الحقائق [ على ] بحر الكلام .

        843 - فمقدار الغرض فيه الآن أن الذين فرضنا الكلام فيهم لا يلزمهم إلا اعتقاد بالتوحيد ، ونبوة النبي المبتعث ، وتوطين النفس على التوصل إليه في مستقبل الزمان مهما صادفوا أسباب الإمكان ، ولسنا ننكر أن عقولهم تستحثهم في قضيات الجبلات على الانكفاف [ عن ] مقتضيات الردى ، والانصراف عن [ ص: 526 ] موجبات [ التوى ] ولكنا لا نقضي بأن حكم الله عليهم موجب عقولهم .

        844 - فننعطف الآن على غرضنا ، ونقول : إذا درست فروع الشريعة وأصولها ، ولم يبق معتصم يرجع إليه ، ويعول عليه ، انقطعت التكاليف عن العباد ، والتحقت أحوالهم بأحوال الذين لم يبلغهم دعوة ، ولم تنط بهم شريعة .

        845 - وإنما جعلت هذا الفصل منقطع الكلام ، لأني افتتحت باسم مولانا نضر الله أيامه ، وأسبغ على ساحته السامية أنعامه ، كتابا مضمونه ذكر مدارك العقول ، سأنخل فيها ثمرات الألباب ، وأنتزع من ملتطم الشبهات صفوة اللباب ، وأتركه عبرة في ارتباك المشكلات ، واشتباك المعضلات ، فصار ما قطعت عليه الكلام [ متقاضيا ] ما [ افتتحته ] والله ولي الإتمام .

        846 - وقد انتهيت إلى ما أردت ذكره في هذا الكتاب ، وبلغت [ ص: 527 ] كنه ما اعتمدته [ من ] تفصيل الأبواب ، وعرضته في معرض البراعة ( 278 ) وجلوته في حلل النصاعة ، ورفعت مخطوبة في كرم المناصب [ والمناسب ] ، إلى أرفع خاطب ، فوافق شن طبقه وصادف الإثمد الحدقة ، واحتاز الفريد الفريد ، وأحرز ذو التاج الإقليد .

        فأطال الله من أعلى منازل الإيالة بقاه ، وأعلى إلى أبعد غايات الجلالة ارتقاه ، ما طلع فجر ، وزخر بحر ، ودار فلك ، وسبح ملك ، واختلف الجديدان ، واعتقب الملوان ، فهو ولي الإحسان والمتفضل بالامتنان [ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم . المبعوث بأفضل الأديان ] .

        [ ص: 528 ] نجز الكتاب بحمد الله ومنه وحسن توفيقه وذلك في ثالث عشرة شهر ربيع الأول سنة . . . وأربعين وسبعمائة .

        والحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا محمد وآله . رحم الله لمن دعا لكاتبه ولقارئه ، ومن قال آمين .

        بلغت مطالعة وإصلاحا مع مراجعة الأصل ، فصح بحمد الله ومنه ، كتبه خليل بن العلائي الشافعي وفرغ منه في تاسع شهر جمادى الأولى سنة ثمانين وأربعة وسبعمائة ، ببيت المقدس ، حماه الله .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية