الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فصل في الحيض

        706 - الحيض حالة تبتلى بها بنات آدم من حيث الفطرة [ ص: 459 ] والجبلة ، ابتلاء معتادا على تكرر الأدوار ، وما كان كذلك ، فالدواعي تتوفر على نقل الأصول التي تمس الحاجة فيه إليها .

        هذا حكم اطراد الاعتياد ، فلا يجوز أن يخلو الزمان عن العلم بأقل الحيض على الجملة وأكثره ، ما دام الناس مهتمين بإقامة الصلوات .

        فإن فرض انطماس أصول الشريعة واستمرار الفترة على الكليات والجزئيات ( 241 ) فاستقصاء ذلك يقع في المرتبة الرابعة .

        فإذا لا يكاد يخفى مع تصوير بقاء أصول الشريعة أن المرأة إذا رأت عشرة أيام دما ، وطهرت عشرين يوما مثلا إنها تترك الصوم والصلاة ، ويجتنبها زوجها ، كما دل عليه قوله تعالى : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن ) .

        وهذه القواعد لا تنسى ما ذكرت وظائف الصلوات .

        707 - فإن زاد الدم على العشرة فهذا موقع خلاف العلماء .

        فمذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن الحيض قد يبلغ خمسة عشر يوما وأكثر الحيض عند طوائف عشرة أيام .

        [ ص: 460 ] فإن زاد الحيض على العشرة ، وقد فرض دروس التفاصيل فقد يخفى كونه حيضا على أهل الزمان .

        ومما يقضى ببقائه في الادكار أن المرأة مأمورة بالصلاة في إطباق الاستحاضة عليها ، فهذا مما لا يكاد ينسى مع ذكر الأصول قطعا .

        فالدم الزائد على العشرة مثلا ، يتردد في ظن أهل الزمان بين أن يكون حيضا ، وبين أن يكون استحاضة ، وهذا الآن فن بديع فليتأمله الموفق ، مستعينا بالله عزت قدرته .

        708 - فأقول : قد يظن الظان أن المرأة إذا شكت في أن ما تراه حيض أم لا ؟ فليست على علم بوجوب الصلاة عليها ، قد ذكرنا أن الوجوب لا يعلم دون العلم بالموجب ، فقد ينتج هذا أن الصلاة لا تجب مع الشك .

        709 - ولكن يعارض هذا أصل آخر لم يتقدم مثله ، وهو أن أمر الله تعالى بالصلاة والصيام مستمر على النساء لا يسقطه عنهن إلا يقين الحيض .

        والاستحاضة لا تنافي الأمر بالصلاة ، فالأمر إذا بالصلاة مستيقن على الجملة ، وسقوطه مشكوك فيه ، وحكم الأصول يقتضي أن من استيقن على الجملة وجوبا ، ثم [ ص: 461 ] يعارض ظناه في سقوطه ، أخذ باستمرار الوجوب ( 242 ) الثابت وعلى هذا بنى علماء الشريعة مسائل الحيض المختلطة بالاستحاضة عند الإشكال على الاحتياط .

        710 - والذي يعضد ويؤكد ما ذكرناه في حق الزمان العاري عن العلم بالتفاصيل أن الزائد على المقدار المعلوم ليس له ضبط ينتهي إليه ، ويوقف عنده وقد تحقق [ أن ] دم الاستحاضة لا ينافي وجوب الصلاة ، فلو تعدت المرأة مبلغ اليقين فأين تقف ؟ ومتى تعود إلى إقامة الصلاة ؟ فهذا ظاهر ، ولست أنفي مع ظهور هذا أن يخطر لعاقل في الزمان الخالي أن الصلوات تجب واحدة واحدة على اعتقاب وظائف الأوقات ، وليست في حكم ما علم وجوبه ناجزا في الحال ، وشك في سقوطه .

        فالصلوات التي تدخل مواقيتها في الحادي عشر ما سبق وجوبها في العاشر ، ووجوبها في الحادي عشر مشكوك فيه . وقد يعارض اعتقاد الوجوب اعتقاد تحريم الإقدام على الصلوات فإن إقامة الصلاة واجبة على الطاهرة ، محرمة على الحائض .

        [ ص: 462 ] 711 - والذي قدمته من أن الأصل وجوب الصلاة من مسالك الظنون والترجيحات التي يتمسك بهما المجتهدون . وظنون العوام لا معول عليها ، وسبيل العلم منحسم قطعا ، وليس في الزمان مقلد ولا ناقل عن مقلد .

        فما الوجه إذا ؟ [ وإنما ] قدمنا وجوه الكلام تنبيها على تقابل الظنون ، وتحقيقا لاختصاص هذه السبل بذوي الاجتهاد .

        فإذا تقرر ذلك ، فأقول :

        712 - الجمع بين تحريم إقامة الصلوات وإيجاب أدائها محال ، والعلم لا يتطرق في حق هذا الشخص إلى درك التحريم ، ولا إلى درك الوجوب ، ولا مرجع له يلوذ به ، ولا حكم لظنه وترجحه ، فالوجه القطع بسقوط التكليف ( 243 ) عنه في هذا الفن ; والتحاقه في هذا الحكم على الخصوص بمن لا تكليف عليه .

        فإن فرضت صورة الصلاة لم يكن لها حكم [ الوجوب ] ، ولا الإجزاء ، ولا التحريم ، إذ شرط التكليف إمكان توصل المكلف إلى درك ما كلف ، وهذا غير ممكن في الصورة التي ذكرناها .

        [ ص: 463 ] وإنما يستحيل تكليف المجنون من جهة أنه يستحيل منه فهم الخطاب ودرك معناه ، وهذا المعنى محقق في هذا الحكم الخاص ، في حق هذا الشخص المخصوص ، وإن كان التكليف مرتبطا به في غيره من الأحكام .

        ولو استحاضت المرأة ، والتبس [ حيضها ] باستحاضتها ، فأحكام المستحاضة من أغمض ما خاض فيه العلماء .

        713 - ومقدار غرضنا من ذلك أنه مهما غمض عليها أنها في حيض أو استحاضة ، وقد خلا الزمان عن موثوق به في تفصيل المستحاضات ، وقد علمت من أصل الشرع أن الحيض ينافي وجوب الصلاة ، ويحرم إقامتها فيه بخلاف الاستحاضة ، فيتصدى لها تحريم الصلاة وإيجابها في كل وقت ، فيسقط التكليف عنها - في خلو الزمان - في الصلاة جملة ما اطرد اللبس عليها .

        وهذا لا يغوص على سره إلا مرتاض في فنون العلم .

        714 - وهذا المجموع يحوي أمورا يشترك في استفادتها المبتدئون والمنتهون ، وأمور يختص باستدراكها أخص الخواص .

        [ ص: 464 ] 715 - وقد يظن المنتهي إلى هذا الفصل أن سقوط التكليف فيما ذكرته يختص بخلو الزمان عن العلماء بالتفاصيل ; ولا يتصور مثله في زمن توافر العلماء المستقلين بحمل الشريعة .

        وأنا أصور سقوط التكليف مع اشتمال الزمان على العلماء ، في صورة يحار الفطن اللبيب فيها ، فأقول :

        716 - لو فرض بيت مشحون بالمرضى المدنفين ( 244 ) وكان [ رجل ] يخطو على سطح البيت من غير اعتداء ولا ظلم ، فانهار السقف ، وخر ذلك الرجل على مريض ، وعلم أنه لو مكث عليه لمات ، ولو تحول عنه لم يجد بدا من توطئ مريض آخر ، ولو اتفق ذلك ، لمات من ينتقل إليه ، وليس في استطاعته التفصي عما هو فيه من غير إهلاك نفس محرمة ، فلا سبيل إلى أمره بالمكث ، ولا إلى أمره بالانتقال ، وأمره بالزوال [ عما ] ابتلي به من غير تسبب إلى [ قتل ] تكليف ما لا يطاق ، وذلك محال عندنا .

        [ ص: 465 ] 717 - فإذا هذه الصورة وإن اتفق وقوعها ، فليس لله فيها حكم ، ولا طلبة على صاحب الواقعة بمكث ، ولا انتقال ، ولا يطلق القول بأنه يتخير بين المكث والزوال ; فإن الخيرة من أحكام الشريعة .

        718 - والذي اعتاص قضية في الصورة التي ذكرناها سبيله على الخصوص فيما دفع إليه ، كسبيل بهيمة لا يتطرق إليها خطاب .

        719 - وقد يتفق لآحاد الناس في [ بقاء ] تفاصيل الشريعة في الادكار حالة يقرب مأخذ القول فيها ما ذكرناه في دروس [ الفروع ] .

        فإذا علمت المرأة أنه يحرم إقامة الصلاة في زمان الحيض ثم ابتليت بالاستحاضة ، وصارت لا تميز بين الحيض والاستحاضة ، [ ص: 466 ] في بقعة خالية عن العلماء ، ويتصدى لها وجوب الصلاة وتحريمها كما قدمنا تصوير ذلك ، فإنها تتوقف ، ولا تمضي أمرا إلى أن تخبر ، وتسأل من يعلم .

        720 - فقد تمهد بما ذكرناه أصل عظيم ، سينعطف كلام كثير في هذه المرتبة عليه ، [ وهو ] يتهذب لسؤال وجواب عنه .

        فإن قيل : ألسنا نعلم الآن تقابل الأمرين في حق المستحاضة الناسية المتحيرة ، ونغلب الأمر بالصلاة ، فنأمرها بإقامة جميع الصلاة فهلا ( 245 ) غلبت المرأة في زمان الفترة وجوب الصلاة على تحريم إقامتها في وقت الفترة ؟ .

        721 - قلنا : قد ثبت في تفاصيل الشريعة عند [ حملتها ] أن وجوب الصلاة أغلب من النظر إلى تحريم إقامتها ، ونحن فرضنا خلو الزمان عن العلم بالتفاصيل ، واستواء الأمر في الوجوب والتحريم في اعتقاد المرأة ، فإن كان بقي في الزمان العلم بأن الصلاة لا يسقط وجوبها إلا بيقين ، فهذا يتبع الأصل بموجبه .

        [ ص: 467 ] 722 - فإن قيل : إذا كنتم تجرون أحكام هذه المرتبة على بقاء أصول الشريعة ، ومن الأصول أن المستحاضة لا تترك الصلاة دهرها ، فلم فرضتم ذهاب هذا الأصل عن الأذهان ، وقد أجمع العلماء أن المستحاضة المتحيرة لا تترك الصلاة ؟ قلنا : الاطلاع على هذا الأصل من غوامض الفقه ، وليس كل مجمع عليه من الأصول التي عنيناها ، فإن أهل الدهر لو أحاطوا بجميع مواقع الإجماع ، هان عليهم إلحاق الفروع بها ، فالأصول التي قدرنا بقاءها كليات مسترسلة ، لا تعلق لها بالغوامض .

        فهذا تمام ما أردنا أن نوضحه من هذه المعاني . والله ولي التأييد والتوفيق ، بمنه ولطفه .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية