فصل .
354 - فأما ، فهذا الفن أليق بأحكام السياسات مما قبله . القول في نزف الأموال ، أو الاستظهار بالذخائر
وقد ذهبت طوائف من علماء السلف إلى أن الإمام إذا أوصل كل ذي حق في بيت المال حقه ، ففضل في بيت المال مال ، فلا سبيل إلى تبقيته ، بل يتعين تفريقه ، واستيعاب جميع ما احتوته يد الإمام من الأموال .
[ ص: 248 ] 355 - أما المرتزقة إن توفرت عليهم كفايتهم ، وانسدت خلاتهم ، وفضل من أربعة أخماس الفيء فاضل ، فيجب فض الفاضل عليهم على أقدار أعطيتهم وأقساطهم .
356 - وأما الزكوات ، إن انتهى مستحقوها إلى مقاربة الاستقلال ، واكتفوا بما نالوه منها ، فلا سبيل إلى رد فاضل الزكوات عليهم ; فإن أسباب استحقاقهم ما اتصفوا به من حاجاتهم ; فإذا زال أسباب الاستحقاق ، زال الاستحقاق بزوالها ، فالفاضل عند هذا القائل - إن تصور استغناء مستحقي الزكاة في قطر وناحية - منقول إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى .
وإن بالغ مصور في تصوير شغور الخطة عن مستحقي الزكاة في ناحية أخرى ، فهذا خرق العوائد ، وتصوير عسر ، ولكن العلماء ربما يفرضون صورا بعيدة ، وغرضهم بفرضها وتقديرها تمهيد حقائق المعاني ، فإن احتملنا تصور ذلك ، فالفاضل من الزكوات عند هؤلاء مردود إلى سهم المصالح العامة .
357 - وأما . المال المرصد للمصالح ، فلا نتصور انقطاع مصارفه
[ ص: 249 ] والإمام يبدأ فيه بالأهم فالأهم ، فإن مست الحاجة إلى ضم طائفة منه إلى مال المرتزقة ، أو صفر بيت المال عن الفيء ، فأهم المصالح تمهيد كفاية المرتزقة ، وإن لم تف الزكوات بحاجات المحاويج سد الإمام حاجتهم بمال المصالح .
فإذا مال المصالح معد لكل مصلحة ليس لها على الخلوص والخصوص مال ، وكل مصرف قصر عنه المال المعد له ، فمال المصالح يستتمه ويستكمله ، ولو فرض زوال الحاجات ، وارتفاع الضرورات ، فهؤلاء يقولون : فاضل مال المصالح يبنى به الرباطات والقناطر والمساجد وغيرها من جهات الخير .
358 - فحاصل هذا المذهب أنه لا يبقى في منقرض كل سنة في بيت المال مال ، ويرتب في استقبال السنة المنتظرة أموالها .
وهؤلاء يستدلون بسيرة الخلفاء الراشدين ، فإنهم - رضي الله عنهم أجمعين - ما كانوا يستظهرون بأموال وذخائر ، وهم أسوة من بعدهم في أمور الإمامة ، إن حاولوا السداد والاستقامة .
[ ص: 250 ] 359 - والذي أقطع به أن الحاجات إذا انسدت ، فاستمكن الإمام من الاستظهار بالادخار ، فحتم عليه أن يفعل ذلك ، ولست أرى ذلك من مسائل التحري التي تتقابل فيها مسالك الظنون .
والدليل القاطع على ذلك أن الاستظهار بالجنود والعسكر المعقود عند التمكن حتم ، وإن بعد الكفار ، وتقاصت الديار ، لأن الخطة إذا خلت عن نجدة معدة ، لم نأمن الحوادث والبوائق والآفات والطوارق ، وإذا ارتبط النظر بالأمر الكلي ، وآل الخوف والاستشعار إلى البيضة والحوزة ، فقد عظم الخطر ، وتفاقم الغرر ، وصعب موقع تقدير الزلل والخطل ، وإذا كان الاستظهار بالجنود محتوما ، فلا معول على مملكة لا معتضد ، ولا مستند لها من الأموال ، فإنها شوف الرجال ، ومرتبط الآمال ، ومن ألف مبادئ النظر في تصاريف الأحوال في الإيالات ، لم يخف عليه مدرك الحق في هذا المقال .
وإذا كان منصب الإمام القوام على طبقات الأنام مقتضيا أن يتحرى الأصلح فالأصلح ، فكيف يليق بنظر ذي تحقيق أن [ ص: 251 ] يبدد الأموال في ابتناء القناطر والدساكر ، ويترك ما هو ملاذ العساكر ؟
والإطناب في الواضحات سيزري بذوي الألباب .
فإذا تعين على الإمام ، فإنها تنزل من نجدة الإسلام منزلة السور من الثغور . الاحتفاظ بفضلات الأموال
360 - فإن قيل : إن احتاج الإمام إلى مال أخذه من الجهة التي يأخذ منها لو صفر بيت المال .
قلنا : هذا [ ضعف ] بين في الرأي ، وانحلال واضح في النظر في العواقب ، ولا يستتب بهذا النظر أمر جزئي ، فكيف الظن بسياسة الإسلام .
ولو ساغ ذلك ، لجاز ألا يستظهر بالجنود المعقودة ، ويعول على استنفار المطوعة ، مهما عنت حاجة ، وألمت ملمة .
وهذا باطل لا سبيل إلى المصير إليه ، والتعويل عليه .
361 - وأما ما تعلق به الأولون من سير الخلفاء ، فحق على [ ص: 252 ] المنتهي إلى هذا الموضع أن ينعم نظره ، ويجرد لدرك [ التحقيق ] فكره ، فنقول :
ما كانت الأموال تبلغ في زمنهم مبلغا يحتمل الادخار ; فإن - رضي الله عنه - بلي في معظم زمانه بقتال الردة ، وما اتفقت مغانم بها اكتراث واحتفال ، ثم لما ولي الصديق عمر - رضي الله عنه - الأمر واتسعت خطة الإسلام ، وانتشرت رايات الدين ، واستفحل أمر المسلمين ، وكثرت الغزوات ، وانبثت الدعوات ، وكسر جند الإسلام صول كسرى ، وقصر طول قيصر ، واستمدت الدولة وعظمت الصولة ، ووفرت المغانم ، وتجردت للجهاد والعزائم .
وألقت الممالك إلى حماة الإسلام مقاليدها ، ولينت كل جنبة أبية للأحكام جيدها ، وفتحت [ الكور ] والأمصار ، وكثر الأعوان [ والأنصار ] فقد يعتقد المعتقد إمكان الادخار . ولكنا نقول :
[ ص: 253 ] 362 - كان معظم الأموال غنائم احتوى عليها عساكر الإسلام بإيجاف الخيل والركاب ، وليس يخفى أن أربعة أخماسها مصروفة إلى المصطلين بنار القتال : أسلابا ، وسهاما ، وأرضاخا .
وكان أمير المؤمنين - رضي الله عنه - رتب في كل ناحية حماة وكفاة ، وأمراء وولاة ، وولاهم أمور الأموال ، وفوض إليهم الأحكام على تصاريف الأحوال ، ورسم لهم مراسم يقتدون بها ، ونصب لهم معالم في أخماس المغانم يهتدون إليها ، وكانوا يبثون ما يتفق من مال في العساكر المرتزقة المترتبين في الناحية ، فلا يفضل إلا النزر ، ثم ما كان يفضل ، ويجبى إلى أمير المؤمنين يفرقه على الذين في جزائر العرب ، ويتتبع في الاستحقاق كل سبب . عمر بن الخطاب
فما كان يفضل ويجبى من الأموال المجنية في هذه القضية في انقضاء السنة [ ما يفرض ] ذخيرة .
363 - ولما ضرب الخراج على بلاد العراق جرى الأمر في [ ص: 254 ] الأموال المستفادة على نحو ما ذكرناه إذ كان كثر الجند في تلك الناحية ، وهم النجدة الكبرى في وجه الروم وملوك الأطراف ، وأعناقهم [ صور ] إلى بلاد الشرق ، وسائر الأكناف .
ولا نقطع بأن بيت المال خلا في زمان أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - عن الأموال ، بل نظن ظنا غالبا أنه كان استظهر بذخائر ، على تطلع إلى العواقب وبصائر ، حتى اشرأبت الفتن ، وثارت المحن ، واضطرب الزمن ، وتقلقلت الخلافة في نصابها ، وأصيبت الملة بسندها ونابها ، وما اتسق بعده أمر ، وما استمر على ما كان يعهد عصر .
ولم يتفرغ أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - من مصادمة البغاة ، ومكاوحة الطغاة ، إلى تجهيز الغزاة ، وجرت هناة على أثر هناة ، ثم صار بعد مقتله رسم الخلافة مرفوضا ، وانقلب الأمر ملكا [ ص: 255 ] عضوضا ، وتغير الحكم والزمان ، والله جلت ( 135 ) قدرته أعلم بما جرى وكان .
364 - فإن قيل : على ماذا تحملون الأمر في زمان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
قلنا : كان صحبه الأكرمون الأنصار والمهاجرون لما ندبوا إلى الجهاد في سبيل الله [ تعالى ] ، والذب عن حوزة الإسلام يصادمون المارقين على الضر [ واللأواء ] ، ويطيرون إلى الغزوات صابرين على البأساء ، ومعظمهم في ملتطم أهوال القتال رجال ، وجرت نهضات وكثير من الأعزة في رمضاء الحجاز حفاة ، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستمد من أموال الموسرين في تجهيز المجاهدين ، إذا أهم أمر ، وادلهم خطب ، كما جرى في تجهيز جيش العسرة .
وهذا المقدار فيه إقناع وعبرة .
365 - فأما الآن فقد اتسعت خطة الإسلام ، وهي على الازدياد والحمد لله على ممر الأيام ، ولكل زمان رسمه وحكمه . ونحن على ارتجال من عقولنا نعلم فيما نمضي ، ونحكم أن صاحب الأمر لو لم [ ص: 256 ] يجعل الاستظهار بالادخار أكثر همه عند الإيثار ، واطراد أسباب الاختيار - لعظم الفتق ، وعسر الرتق ، وأفضى الأمر إلى عظائم لا يحيط بها مجاري الأفكار .
فهذا القدر فيه مقنع وبلاغ ، وللازدياد على ما مهدناه مضطرب رحب ومساغ .
وقد انتهى المرام ، وغرض الكلام في الفصل الثاني من الفصول الثلاثة المترجمة أولا في أحكام الأموال .