[ ص: 329 ] [ ] حكم المستولي الكافي الذي لا يشاركه غيره
476 - فإن تصور توحد كاف في الدهر لا تبارى شهامته ، ولا تجارى صرامته ، ولم نعلم مستقلا بالرئاسة العامة غيره - فيتعين نصبه .
ثم تفصيل تعينه كتفصيل تعين من يصلح للإمامة ، كما تقدم حرفا حرفا .
477 - والآن أمد في ذلك أنفاسي ، فإنه من أهم المقاصد ، وأعم الفوائد ، وهو مفتتح القول في بيان ما دفع إليه أهل الزمان . .
والمقاصد من ذلك يحصرها أمور : أحدها : أن القائم بهذا الأمر في خلو الدهر ، وشغور العصر في حكم الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، ولا بد من إثبات ذلك ( 175 ) بالواضحة ، والحجة اللائحة ، حتى إذا تقررت القاعدة ، [ ص: 330 ] رتبنا عليها ما يتضح به المقصود ، إن شاء الله ، والله المستعان المحمود .
478 - وقد اتفق المسلمون قاطبة على أن لآحاد المسلمين ، وأفراد المستقلين بأنفسهم من المؤمنين أن يأمروا بوجوه المعروف ، ويسعوا في إغاثة كل ملهوف ، ويشمروا في إنقاذ المشرفين على المهالك والمتاوي والحتوف .
479 - وكذلك اتفقوا على أن من رأى مضطرا مظلوما ، مضطهدا مهضوما ، وكان متمكنا من دفع من ظلمه ، ومنع من غشمه ، فله أن يدفع عنه بكنه جهده ، وغاية أيده ، كما له أن يدفع عن نفسه .
480 - ولو هم رجل أن يأخذ مقدار نزر وتح من [ ص: 331 ] مال إنسان ، فله أن يدفعه باليد واللسان ، وإن أتى الدفع على القاصد ظلما ، كان دمه مهدرا محبطا ، مطلولا مسقطا .
481 - فإذا كان يجوز الدفع عن الفلس والنفس باللسان والخمس ، ثم بالسلاح والجراح ، من غير مبالاة بزهوق الأرواح ، مع التعرض للتردد بين الإخفاق والإنجاح ، فلو انتفض الدهر عن إمام ذي استقلال ، وقيام بمهمات الأنام ، ولا خبال في عالم الله يبر على التطام الرعاع والطغام ، وهمج العوام .
ولو جرت فترة في بعض الأعوام ، وجرى ما نحاذره من خروج الأمور عن مسالك الانتظام للقي أهل الإسلام أحوالا واختلالا ، لا يحيط بوصفه غايات الإطناب في الكلام ولأكل بعض الناس بعضا ، وارتجت الممالك ، واضطربت المسالك طولا وعرضا .
ثم إذا خلت الديار عن الجنود المعقودة والأنصار ، استجرأ [ ص: 332 ] الكفار ، وتمادى الفساد والانتشار ، وعم الشر والضر ( 176 ) وظهر الخبال في البحر والبر : فكم من دماء لو أفضى الأمر إلى ذلك تسفك ، وكم من حرمات تهتك ، وكم من حدود تضيع وتهمل ، وكم ذريعة في تعطيل الشريعة تعمل ، وكم من مناظم للدين تدرس ، وكم معالم تمحق وتطمس .
وقد يتداعى الأمر إلى أصل الملة ، ويفضي إلى عظائم تستأصل الدين كله ، [ إذا ] لم ينتهض من يحمل عناء الإسلام وكله .
482 - فلو انتهى الخطب إلى هذا المنتهى ، واستمكن متوحد في العالم من العدد والعدد ، وموافاة الأقدار ، ومصافاة الأعوان والأنصار .
وثقابة الرأي والنهي وعزيمة في المعضلات لا تفل ، وشكيمة لا تحل ، وصرامة في [ الملمات ] يكل عن نفاذها ظبات السيوف ، وشهامة في الدواهي المدلهمات تستهين باقتحام جراثيم الحتوف ، وأناة يخف بالإضافة إليها الأطواد الراسخة .
وخفة إلى مصادمة العظائم تستفز ثقل الأوتاد الشامخة ، إذا حسب تبلد بين يديه كل [ ص: 333 ] ماهر [ حسوب ] ، وإذا شمر ، خضع لجده وجده معوصات الخطوب ، وقد طبع الفاطر على الإذعان له حبات القلوب ، كلما ازدادت الأمور عسرا ، ازداد صدره الرحيب انفساحا ، وغرته الميمونة بشرا .
إن نطق فجوامع الكلم وبدائع الحكم ، تنتزع عن الأصمخة صمام الصمم ، وإن رمز وأشار فالشهد الجني المشار .
وإن وقع أعرب وأبدع ، وخفض ورفع ، وفرق وجمع ، ونفع ودفع ، العفة حكم خلائقه ، والاستقامة نظم طرائقه ، وقد حنكته التجارب ، وهذبته المذاهب ، يسكته حلمه ، وينطقه علمه ، وتغنيه اللحظة ، وتفهمه اللفظة ، يخدمه السيف والقلم ( 177 ) ، ويعشو إلى ضوء رأيه الأمم .
إن سطا على [ ص: 334 ] العتاة بعنفه شامخا بأنفه ، ارفضت رواسي الجبال ، وتقطعت نياط قلوب الرجال ، وإن لاحظ العفاة بطوله أزهرت رياض الآمال .
وهذه الخلال إلى استمساك من الدين بالحبل المتين ، واعتصام بعرى الحق المبين ، ولياذ في قواعد العقائد بثلج الصدر ، وبرد اليقين ، وثقة بفضل الله لا يكدرها نوائب الأزمان ، ولا يغيرها طوارق الحدثان .
وحق المليك الديان أنه يقصر عن أدنى معانيه ومعاليه غايات البيان .
483 - هذه كنايات عن سيد الدهر ، وصدر العصر ، ومن إلى جنابه منتهى العلا والفخر ، وقد قيضه الله جلت قدرته ، لتولي أمور العالمين وتعاطيها ، وأعطي القوس باريها .
فهو على القطع في الذب عن دين الله ، والنضال عن الملة وترفيه المسلمين عن كل مدحضة ومزلة ، وتنقية الشريعة [ عن ] كل بدعة شنعاء مضلة ، وكف الأكف العادية .
وعضد الفئة المرشدة الهادية في [ ص: 335 ] مقام شفيق رفيق ، قوام على كفالة أيتام : ينتحي غبطتهم ، ويتجاوز عثرتهم وسقطتهم .
484 - وإذا كان يقوم الرجل الفرد بالذب عن أخيه ، وبهداية من يستهديه ، ونصرة من يندبه ويستدعيه ، فالإسلام في حكم شخص مائل يلتمس من يقيم أوده ، ويجمع شتاته وبدده ، ويكون عضده ومدده ، ووزره وعدده .
فلئن وجب إسعاف الرجل الواحد بمناه [ وإجابته ] في استنجاده واسترفاده إلى مهواه فالإسلام أولى بالذب ، والنادب إليه الله .
485 - وإنما لم يجعل لآحاد الناس شهر السلاح ، ومحاولة المراس في رعاية الصلاح والاستصلاح ( 178 ) لما فيه من نفرة النفوس ، والإباء والنفاس ، والإفضاء إلى التهارش والشماس .
486 - والذي يزيل أصل الإشكال والإلباس أنا نجوز للمطوعة في الجهاد الإيغال في بلاد أهل العناد من الكفار ، على الاستبداد ، وإن كان الأولى أن يكون صدرهم عن رأي الإمام الذي إليه الاستناد ، [ ص: 336 ] فلما كان غايتهم الاستشهاد - والشهادة إحدى الحسنيين - لم يمنع المطوعة من التشمير للقتال .
والنزاع بين المسلمين محذور ، والسبب المفضي إليه محرم محظور . فإذا استقل فرد الزمان بعدة لا تصادم ، واستطالت يده الطولى ، على الممالك عرضا وطولا ، واستتبت الطاعة ، وأمكنت الاستطاعة فقيامه بمصالح أهل الإيمان بالسيف والسنان ، كقيام الواحد من أهل الزمان بالموعظة الحسنة باللسان .
وها أنا الآن أنهي القول فيه ، إلى قصارى البيان ، والله تعالى المستعان .
487 - [ فالمتبع ] في [ حق المتعبدين ] الشريعة ومستندها القرآن ، ثم الإيضاح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبيان ، ثم الإجماع المنعقد من حملة الشريعة من أهل الثقة والإيمان .
فهذه القواعد . وما عداها من مستمسكات الدين كالفروع والأفنان .
[ ص: 337 ] 488 - والإمام في التزام الأحكام ، وتطوق الإسلام كواحد من مكلفي الأنام ، وإنما هو ذريعة في حمل الناس على الشريعة ، غير أن الزمان إذا اشتمل على صالحين لمنصب الإمامة ، فالاختيار يقطع الشجار ، ويتضمن التعيين والانحصار ، ولا حكم مع قيام الإمام إلا للمليك العلام .
489 - فإذا لم يتفق مستجمع للصفات المرعية ، واستحال تعطيل الممالك والرعية ، وتوحد شخص بالاستعداد بالأنصار ، والاستظهار بعدد الاقتهار والاقتسار ( 179 ) [ والاستيلاء ] على مردة الديار ، وساعدته مواتاة الأقدار ، وتطامنت له أقاصي الأقطار ، وتكاملت أسباب الاقتدار .
فما الذي [ يرخص ] له في الاستئخار عن النصرة والانتصار ؟ والممتثل أمر الملك القهار ، كيف انقلب الأمر واستدار .
490 - فالمعنى الذي يلزم الخلق طاعة الإمام ، ويلزم الإمام القيام بمصالح الإسلام ، أنه أيسر مسلك في إمضاء [ ص: 338 ] الأحكام ، وقطع النزاع والإلزام ، وهو بعينه يتحقق عند وجود مقتدر على القيام بمهمات الأنام ، مع شغور الزمان عن إمام .
491 - فقد تحقق ما أحاوله قطعا على الله العظيم شانه ، ووضح كفلق الصبح دليله وبرهانه ، فامض يا صدر الزمان [ ص: 339 ] قدما ولا تؤخر الانتهاض لما رشحك الله له [ قدما ] .
وأقدر الآن أسئلة مخيلة وأنوي بيمن أيام مولانا جوابا عن كل سؤال يوضح تحقيقه وتحصيله ، ثم ينتجز بانقضاء السؤال والجواب مقصود هذا الفصل من هذا الباب .
492 - فإن قيل : إنما كان يستقيم ما ذكرتموه ويستمر ما كررتموه لو كانت الأمور جارية على سنن السداد ومناهج الرشاد ، فأما والأيدي عادية ، ووجوه الخبل والفساد بادية ، ونفوس المتمردين على الطغيان والعدوان متمادية ، وليس للملك عصام ضابط ، ولا [ ص: 340 ] انتظام رابط ، وربقة الإيالة محلولة ، وحدود السياسة مفلولة ، وسيوف الاعتداء مسلولة ، ورباط العزائم منحلة ، ورقاب الطغام عن جامعة الولاة منسلة ، ومعالم العدل مندرسة ، ومناظم الإنصاف منطمسة .
فالبعد من هذه الفئة الطاغية أسلم ، والنأي عنهم أحزم ، وإذا استبدل الزمان عن الرشد غيا ، فلا نعدل بالسلامة شيا .