493 - قلت : هذا الآن تدليس وإلغاز وتلبيس ( 180 ) وأجيب عنه من وجهين : أحدهما - أن الأمر على خلاف ما ذكره السائل وصوره ، فإن الطاعة مبسوطة ، وعرى الملك برأي سلطان الزمان منوطة ، وحوزة الإسلام - والحمد لله - محوطة ، والأبهة قائمة ، والأركان وارفة الأفنان ، رحبة الأعطان .
وقاعدة الملك راسخة ، وأطواد الهيبة شامخة ، وأوتاد الدولة باذخة ، والسلطنة بمائها ، والمملكة مستمرة على علائها ، [ ص: 341 ] والعزة مستقرة في غلوائها ، ورواق الجد ممدود ، ولواء النصر معقود ، ما نجم ناجم إلا قصمه من القدر الغالب قاصم ، وما هجم ثائر هاجم إلا صدمه صادم .
ولو ذهبت أبسط القول في ذلك مقالا ، لصادفت مضطربا رحبا ومجالا .
[ أما ] تعدي الأجناد بعض حدود الاقتصاد ، فلم يخل منه زمان ، ولم يعر منه أوان ، ونعم الحكم العدل والإنصاف ، فلنضرب عما يجري في الأكناف والأطراف ، ولنعمل على تنكب الاعتساف ، فنقول :
494 - مرموق الخلائق على [ تفنن ] الآراء والطرائق الدماء والأموال والحرم . أما الدماء فمحقونة في أهبها في أعم الأحوال ، فإن فرضت فتكة واغتيال ، وهتكة واحتيال تداركها المترصدون لهذه الأشغال .
وأما الأموال فمعظم الطلبات الخارجة عن الضبط محسومة ، [ وأسباب ] المكاسب منظومة ، ومطالع مطامع المتعدين [ ص: 342 ] أطوارهم مردومة ، والتوزيعات والقسم مرفوضة ، وقواعد المطالبات والمصادرات منقوضة ، والرفاق من أقاصي الآفاق على أطراف الطرق في خفض الأمن وادعون ، وأصحاب العرامات مطرقون ، تحت هيبة السلطنة خاشعون ، ولو قيس هذا ( 181 ) الزمان اللاحق بالزمان السابق لظهر اختصاصه بفنون من النعمة والأمنة ، لا يصفها الواصفون ، ولا يقوم بكشفها الكاشفون وأما الحرم فمصونة ، من جهة صدر جنود الإسلام مرعية محفوظة من نزغاتهم ونزقاتهم محمية ملحوظة من رعاة الرعية .
وإن فرضت لطمة وبلية كانت في حكم عثرة يرخى عليها الستر وتقال أو يلحق بمن يأتيها الخزي والنكال .
495 - هذا حكم كلي على مناظم المملكة ، فإن انسلت عن الربط بوادر ونوادر غير مدركة ، وفارقت منهج الضبط ومسلكه أو هاجت في أكناف الخطة فتنة ثائرة ، ونائرة جرت مهلكة ، [ ص: 343 ] فمن الذي يضمن [ نفض ] الدنيا عن بوائقها ويرخصها عن دواهيها وعوائقها هذا - رضي الله عنه - ما دار الفلك على شكله ، وما قامت النساء على مثله ، درت أخلاف الدين في زمنه ثرة ، وساس حوزة الإسلام بدرة وقال - رضي الله عنه - مرة : لو تركت جرباء على ضفة الفرات لم تطل بالهناء ، فأنا المطالب بها يوم القيامة " ثم صادف علج منه غرة ، وقتله قتلة مرة ، فلم ينفعه عزمه وحزمه ، لما نفذ فيه قضاء الله وحكمه ، ولم نجد لقضاء الله مردا . وإن كان سورا حول الإسلام وسدا . عمر بن الخطاب
ولو أرخيت في هذا الفصل فضل عناني وأرسلت عذبة لساني وقصصت من بدائع هذه المعاني ، لجاوزت القواعد من مقاصدي في هذا المجموع والمباني .
496 - ثم أختتم هذا الفصل بما هو غايات الأماني ، وأنهيه مبلغا يعترف بموضوعه القاصي والداني ، فأقول : ما تشبث به الطاعنون [ ص: 344 ] من هنات وعثرات ، صدرها عن معرة ( 182 ) الأجناد المنحرفين عن سنن الاقتصاد ، في أطراف الممالك والبلاد .
لو سلم لهم كما يدعون ، توبعوا فيما يأتون ويذرون ، وغض عنهم طرف الانتقاد فيما يبتدعون ويخترعون فأنى يقع ما يقولون مما يدفع الله بهم من معضلات الأمور ، ويدرأ بسببهم من فنون الدواهي على كرور الدهور ؟
أليس بهم انحصار الكفار في أقاصي الديار ؟ وبهم تخفق بنود الدين على الخافقين ، وبهم أقيمت دعوة الحق في الحرمين ، وأثبتت كتائب الملة في المشرقين والمغربين ، [ وارتدت ] مناظم الكفار منكوسة ، ومعالمهم معكوسة .
وبذل عظيم الروم الجزية والدنية ، وصارت المسالمة والمتاركة له قصارى الأمنية ، وانبسطت هيبة الإسلام على الأصقاع القصية ، وأطلت على قمم الماردين رايته العلية ، وأضحت ثغر صدورهم لأسنة عساكر الإسلام درية .
[ ص: 345 ] هذه رمزة إلى أدنى الآثار في ديار الكفار .
497 - فأما ما دفع الله بهم عن بلاد الإسلام من البدع والأهواء ، وضروب الآراء فلا يحتوي عليها نهايات الأوصاف والأنباء :
أليس اقتلعوا قاعدة القرامطة من ديارها واستأصلوا ما أعيا ذوي النجدة والباس من خلفاء بني العباس من آثارها ؟ وأوطئوا رقاب الزنادقة ، وكل فئة مارقة سنابك الخيل .
وانتهى رعبهم حيث انتهى الليل ، فلم يبق في خطة الإسلام متظاهر بالبدعة ، إلا أضحى منكوبا مرعوبا مكبوبا ، فإن ألفي زائغ مراوغ ، يدب الضراء ، ويمشي الخمر ، فهو من أهل الحق والسنة على أعظم الغرر .
فإذا كانوا عصاما لدين الإسلام ووزرا للشريعة التي ( 183 ) ابتعث بها سيد الأنام فأي قدر للدنيا بحذافيرها بالإضافة إلى الدين ؟ وأي احتفال بأعراضها مع استمرار الحق المبين ، والمنة لله رب العالمين .
[ ص: 346 ] 498 - ولو أرخيت في ذلك الطول لخفت انتهاء الكلام إلى الإطناب والملل ، وربما كان ما قل ودل ، أنجع مما يطول فيمل ، فمن لا يحيط بحقائق الأشياء في [ استدادها ] فليتخيل جريان نقائضها وأضدادها .
ولو فرضت - والعياذ بالله - فترة تجرأ بسببها الثوار من الديار ، ونبغ ذوو [ العرامة ] الأشرار ، وانسلوا عن ضبط بطاش في الزمان ذي اقتدار ، لافتدى ذوو الثروة واليسار أنفسهم وحرمهم بأضعاف ما هم الآن باذلون في دفع أدنى ما ينالهم من الضرار .
499 - نعم . ولو [ تذاكرنا ] الواقعة التي أرخت في تواريخ الأخبار ، لأغنتنا عن إطالة النظر والاعتبار ، لما انجر من أقاصي بلاد الروم والعسكر الجرار وانسدت السبل ، وضاقت الحيل ، وغص الجو بالخرصان ، وجاش جيش الكفر بالفرسان ، ولم يشكوا أنهم يطوون من الأرض مناكبها ، ويملكون مشارق الأرض ومغاربها .
وأضحت قلوب المسلمين واجفة ، وأحشاؤهم راجفة ، وآراؤهم [ ص: 347 ] متفاوتة ، وعقولهم متهافتة ، فمال ملك الإسلام ، ألب أرسلان - تغمد الله روحه بالروح والرضوان - إليهم وانقض انقضاض الصقر عليهم ، وغضب لله غضبة تستجفل الآساد عن أشبالها ، وانغمس في شرذمة قليلة في غمرة الداهية ، غير محتفل بأهوالها .
وكان الكفار اغتروا بوفور جمعهم ، ولم يعلموا أن الله من وراء قمعهم ، فرضي ملك الإسلام بمقدور القضاء ، ومد علم الحق ( 184 ) إلى الفضاء فأضاءته من جنود الإسلام بروق السيوف ، ومطرت سحائب الحتوف ، وتكشرت أنياب الهيجاء ، ودارت الرحا على الدماء ، واستمرت الحرب سجالا ، ونال كل من قرنه منالا ، فلما كان يوم الجمعة التقى الصفان ، والتحم الفئتان ، والتقت حلقتا البطان .
[ ص: 348 ] فقال الملك ألب أرسلان : طاردوهم حتى توافوا [ أوان ] دعوة الخطباء في أقاصي البلدان ، فما زالت الشمس حتى زالت أعلامهم ، وزلت أقدامهم ، وبلغت أن قائدهم الملقب بقيصر لما نفخ الشيطان في مناخره ، وعمي في أول الأمر عن آخره ، أقدم متابعا قائد غيه وضلاله ، مجيبا داعي جهله وخباله .
فكان أول من أبدت الحرب مقاتله وأرسى عليه الموت كلاكله ، فحصل في قبضة الأسر ، وانبسطت عليه يد القسر ، ورد الله كيده في نحره ، وأذاقه وبال أمره ، فبات مع المقرنين في الأصفاد ، والله للباغين بالمرصاد .
فمن استمسك بالحق ، ولم يمل به مهوى الهوى عن الصدق تبين على البدار والسبق أن خزائن العالمين ، وذخائر الأمم الماضين وكنوز المنقرضين ، لو قوبلت بوطأة من الكفار لأطراف ديار الإسلام ، لكانت مستحقرة مستنزرة .
فكيف لو تملكوا البلاد [ ص: 349 ] وقتلوا العباد ، وقرعوا الحصون والأسداد ، وخرقوا عن ذوات الخدور حجب الرشاد ، ومال إليهم من لا خلاق له من حثالة الناس بالارتداد ، وتخلل الحرائر العلوج ، وهتك حجالهن التبذل والبروج ، وهدمت المساجد ، ورفعت الشعائر والمشاهد ، وانقطعت الجماعات والأذان وشهرت النواقيس والصلبان وتفاقمت دواعي الاجتراء ( 185 ) والافتضاح ، وصارت خطة الإسلام بحرا طافحا بالكفر الصراح ؟ فما القول في أقوام بذلوا في الذب عن دين الله حشاشات الأرواح ، وركبوا نهايات الغرر متجردين لله تعالى في الكفاح ، وواصلوا المساء بالصباح ، والغدو بالرواح ، وركبوا إلى الموت أجنحة الرياح ، متشوفين إلى منهل المنايا على هزة وارتياح ؟ حتى وافوا بحرا من جمع الكفار لا ينزفه إدمان الانتزاح ، فركنوا للموت .
وتنادوا لا براح ، وألموا بهم إلمام القدر المتاح ، وما وهنوا [ ص: 350 ] وما استكانوا وإن عضهم السلاح ، وفشا فيهم الجراح حتى أهب الله رياح النصر من مهابها ، ورد شعائر الحق إلى نصابها ، وقيض من ألطافه بدائع أسبابها .
أيثقل هؤلاء على أهل الإسلام بنزر من الحطام ؟ وهم القوام والنظام .
فهذه نبذة كففت فيها غرب الكلام ، ودللت بالمرامز على نهايات المرام .
500 - والآن آخذ في فن [ آخر ] وأنتحي فيه فن الاستقصاء والإتمام ، فأقول :
لو سلمت للطاعنين غاية ما حاولوه جدلا ، ولم أنازعهم مثلا ، وضربت عن محاقتهم حولا ، فهل هم منصفي في خطة أسائلهم [ ص: 351 ] عن سرها وأباحثهم في خيرها وشرها ، ونفعها وضرها وحلوها ومرها ، فأقول :
لو فرضنا خلو الزمان عمن تشكون من الأقوام وتعرى الخواص والعوام ، عن مسيطر بطاش قوام .
أهذا أقرب إلى السداد والانتظام ، أم قيامهم على الثوار والطغام ، مع امتداد الأيدي إلى نزر مما جمعوه من الشبهات والحرام ، مع استمساكهم من الدين الحق بأقوى عصام ، ووقوفهم في وجوه الكفار ، كأنهم أسود آجام ؟
فالوجه رؤية ( 186 ) أنعم الله في مثارها ، والابتهال إليه في دفع غوائل الطوارق ومضارها ، ومن طلب زمانا صافيا عن الأقذاء والأكدار ، فقد حاول ما يند عن الإمكان والأقدار :
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار .
وقد حان الآن أن نضرب في معنى آخر مستجد مستجاد ، ونمعن [ ص: 352 ] في منهج حديث مستفاد ، فنقول :
501 - لو قدرنا من تشكونهم على ما تقدرونهم ، فهل تسلمون ما يدفع الله من شرهم ، ويدرأ من [ ضرهم ] ، بسبب من هو سيد الأمة وملاذها ، وسندها ومعاذها ؟ وهل يعترفون بأنه لولا هيبته القاهرة ، وسطوته القاسرة ، لانسل عن لجم الضبط العتاة ، واسترسلت على [ انهتاك ] الحرمات ، واقتحام المنكرات - الطغاة ؟ ولبلغ الأمر مبلغا لا تأتي عليه الصفات ؟ .
502 - فإن أبدى الطاعنون صفحة الخلاف ، وجانبوا وجه الإنصاف كانوا في حكم من يعاند المحسوسات ، ويجاحد البدائه والضرورات .
وإن أذعنوا للحق ، وباحوا بالصدق ، وقالوا : إن ما يدفع الله به ظاهر لا سبل إلى إنكاره ، ومن جحده ، شهدت عليه بدائع آثاره . فنقول :
[ ص: 353 ] 503 - إذا جل قدر من يدرأ من الآفات والبليات ، وضروب المعضلات ، فالقيام بدفعها تصد لكفاية المسلمين متاوي ومعاطب ، وفنونا من الدواهي ، وليس من شرط الاستقلال بدفع مهمات إمكان دفع سائرها .
ومن رأى أخاه المسلم مشرفا على الهلاك ، وصادف ماله متعرضا للضياع ، واستمكن من دفع الهلاك عنه ، ولم يتمكن من إنقاذ ماله ، فيتعين الدفع ( 187 ) عن نفسه ، وإن عسر تخليص ماله .
فالذي ناط الله عزت قدرته تعالى بمنصب صدر الزمان ، من دفع طوارق الحدثان ، لا يأتي على أدناه غايات البيان ، والذي يعسر دفعه ، ورده ومنعه لا يمنع وجوب دراء ما يسهل درؤه .
504 – وأنا أستوضح مرامي بضرب مثل ، فأقول : إن بلي المسلمون [ بجدب ] في بعض سني الأزم ، وألم بالناس موتان ، فالآفات السماوية لا يدخل دفعها تحت الإيثار والأقدار ، ولكن ما يمكن دفعه ، ويرتبط بالإيثار والاختيار منعه ، من هرج [ ص: 354 ] أو ثوران متلصص ، أو استجماع قطاع الطرق ، أو وطء طوائف من الكفار أطراف ديار الإسلام ، فيتعين القيام بالدفع على حسب الإمكان .
وإن كان قد يغشى الخلائق من ضروب البوائق ، ما لا استمكان في درئه ، فما يصدر من الأجناد ، مما يتعذر تقدير دفعه كآفات سماوية .
وما تيسر دفعه يتعين التشمير ، واجتناب التقصير في دفعه . فقد بلغ الكلام في فنه نهاية الإيضاح ولاح كفلق الصباح وقد انتهى مقدار الغرض في الجواب عن سؤال واحد أنا الآن آخذ في ضرب آخر في معرض سؤال وجواب عنه .