[ ص: 787 ] باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المتصرفات بحسب تصرف الحاجات وسائر العلوم المنتحلات عند جميع أهل المقالات .
قال رضي الله عنه : " أبو عمر عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه ، وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فلم يعلمه ، والتقليد عند العلماء غير الاتباع ؛ لأن الاتباع هو تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه ، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه ، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى ، والعلم عند غير أهل اللسان العربي فيما ذكروا يجوز أن يترجم باللسان العربي علما . [ ص: 788 ] حد العلم
ويترجم معرفة ويترجم فهما ، والعلوم تنقسم قسمين : ضروري ومكتسب ، فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يدخل فيه على نفسه شبهة ، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل كالعلم باستحالة كون الشيء متحركا ساكنا أو قائما قاعدا أو مريضا صحيحا في حال واحدة ، ومن الضروري أيضا وجه آخر يحصل بسبب من جهة الحواس الخمس كذوق الشيء يعلم به المرارة من الحلاوة ضرورة إذا سلمت الجارحة من آفة وكرؤية الشيء يعلم بها الألوان والأجسام وكذلك السمع يدرك به الأصوات ، ومن الضروري أيضا علم الناس أن في الدنيا مكة ، والهند ، ومصر ، والصين وبلدانا قد عرفوها وأمما قد خلت . وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر ومنه الخفي والجلي فما قرب منه من العلوم الضرورية كان أجلى وما بعد منها كان أخفى ، والمعلومات على ضربين : شاهد وغائب فالشاهد ما علم ضرورة والغائب ما علم بدلالة من الشاهد . والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة : علم أعلى ، وعلم أسفل ، وعلم أوسط . فالعلم الأسفل هو : تدريب الجوارح في الأعمال والطاعات ، كالفروسية والسياحة والخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو أن يأتي عليها وصف . [ ص: 789 ]
والعلم الأعلى عندهم ، علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين نصا ومعنى ، ونحن على يقين مما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل وسنه لأمته من حكمته ، فالذي جاء به القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، شفاء ورحمة للمؤمنين آتاه الله الحكم والنبوة فكان ذلك يتلى في بيوته قال الله تعالى : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) يريد : القرآن والسنة ، ولسنا على يقين مما يدعيه اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ؛ لأن الله قد أخبرنا في كتابه عنهم أنهم ( يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . فكيف يؤمن من خان الله وكذب عليه وجحد واستكبر ؟ قال الله تعالى : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) وقد اكتفينا والحمد لله بما أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم من القرآن وما سنه لنا عليه السلام . قال من الواجب على من لا يعرف اللسان الذي نزل به القرآن وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من علم ذلك ما يكتفي به ولا يستغني عنه حتى يعرف تصاريف القول وفحواه وظاهره ومعناه وذلك قريب على من أحب علمه وتعلمه وهو عون له على علم الدين الذي هو أرفع العلوم وأعلاها ، به يطاع الله ويعبد ويشكر ويحمد فمن علم من القرآن ما به الحاجة إليه وعرف من السنة ما يعول عليه ووقف من مذاهب الفقهاء على ما نزعوا به وانتزعوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم حصل على علم الديانة ، وكان على أمة نبيه مؤتمنا حق الأمانة إذا أبقى الله فيما علمه ، ولم تمل به دنيا شهوته أو هوى يرديه فهذا عندنا العلم الأعلى الذي نحظى به في الآخرة والأولى ، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره ، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة . [ ص: 790 ] أبو عمر
وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه والتشبيه ونفيه وأمور لا يدرك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس ، قد أغنت عن الكلام فيها كتب الله الناطقة بالحق المنزلة بالصدق وما صح عن الأنبياء صلوات الله عليهم ، ثم العلم الأوسط والأسفل عندهم على ما ذكرنا عن أهل الأديان إلا أن العلم الأوسط ينقسم عندهم على أربعة أقسام هي كانت عندهم رؤوس العلوم ، وهي علم الحساب والتنجيم والطب وعلم الموسيقى ومعناه تأليف اللحون وتعديل الأصوات ورن الأنقار وأحكام صنوف الملاهي أما علم الموسيقى واللهو فمطرح ومنبوذ عند جميع أهل الأديان على شرائط العلم والإيمان ، وأما علم الحساب فالصحيح عندهم منه معرفة العدد والضرب والقسمة والتسمية وإخراج الجذور ومعرفة جمل الأعداد ومعنى الخط والدائرة والنقطة وإخراج الأشكال بعضها من بعض ، وهو علم لا يستغنى عنه لفرائض المواريث والوصايا وموت بعد موت وأوقات الصلوات والحج وأحوال الزكوات وما يتصرف فيه من البياعات وعدد السنين والدهور ومرور الأعوام والشهور وساعات الليل والنهار ومنازل القمر ومطالع الكواكب التي قدرها الله تعالى للأنواء وسقوطها ومسير الدراري ومطالع البروج وسني الشمس والقمر . ثم الإغراق في علم الحساب ربما آل بصاحبه إلى علم القضاء بالتنجيم ، وهو علم . [ ص: 791 ]
مذموم لا يتناوله ولا يقطع أيامه فيه إلا الخراصون الذين هم في غمرة ساهون ، ومن أهل العلم من ينكر شيئا مما وصفنا أنه لا يعلم أحد بالنجامة شيئا من الغيب ولا علمه أحد قط علما صحيحا إلا أن يكون نبيا خصه الله بما لا يجوز إدراكه قالوا : ولا يدعي معرفة الغيب بها اليوم على القطع إلا كل جاهل منقوص مغتر متخرص إذ في أقدارهم أنه لا يمكن تحديثها إلا في أكثر من عمر الدنيا ما يكذبهم في ما يدعون معرفته بها والمتخرصون بالنجامة كالمتخرصين بالعيافة والزجر وخطوط الكف ، والنظر في الكتف وفي مواضع قرض الفأر وفي الخيلان والعلاج بالفكر وملك الجن ، وما شاكل ذلك مما لا تقبله العقول ولا يقوم عليه برهان ولا يصح من ذلك كله بشيء ؛ لأن ما يدركون منه يخطئون في مثله مع فساد أصله ، وفي إدراكهم الشيء وذهاب مثله أضعاف ما يدلك على فساد ما زعموه ولا صحيح على الحقيقة إلا ما جاء في أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم " .