الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( النفخة الثالثة ) :

نفخة البعث والنشور ، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها ، وأخبار تشير إليها كقوله تعالى :

( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) ، وقوله :

( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) - ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) قال الكلبي وغيره : هي نفخة البعث ، والناقور فاعول من النقر ، وقوله تعالى :

( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ) الآية ، قال المفسرون :

المنادي هو إسرافيل عليه السلام ، ينفخ في الصور وينادي أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء .

وقيل : ينفخ إسرافيل ، وينادي جبريل ، والمكان القريب صخرة بيت المقدس . قاله جماعة من المفسرين .

وبين النفختين أربعون عاما - قال بعض العلماء : اتفقت الروايات على ذلك .

وفي [ ص: 165 ] مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : ما بين النفختين أربعون . قالوا :

يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال :

أبيت ، قالوا :

أربعون شهرا ؟ قال :

أبيت ، قالوا :

أربعون عاما ؟ قال :

أبيت - الحديث ، وقول أبي هريرة - رضي الله عنه - " أبيت " فيه ثلاث تأويلات :

أولها : امتنعت من بيان ذلك لكم ، وقيل : أبيت أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وقيل : نسيت ، وقيل : إن سر ذلك لا يعلمه إلا الله ؛ لأنه من أسرار الربوبية .

وفي حديث أن بين النفختين أربعون عاما ، وفي تفسير الثعلبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في تفسير سورة الزمر مرفوعا " إن الله يرسل مطرا على الأرض فينزل عليهم أربعون يوما حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعا ، فيأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت قال الله تعالى : ليحيا حملة العرش ، ليحيا جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعوا الأرواح فيؤتى بها ، تتوهج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة فيقبضها جميعا ، ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمره أن ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كلها كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض ، ثم يقول الله تعالى :

وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح من الخياشيم ثم تمشي مشي السم في اللديغ ، ثم تشق الأرض عنهم سراعا ، فأنا أول من تنشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون
" ، وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما بين النفختين أربعون " قيل : أربعون يوما ؟ قال أبو هريرة : أبيت ، قال : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت ، قال : أربعون سنة ؟ قال : أبيت ، " ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة " . وفي رواية لمسلم " أن في الإنسان عظمة لا تأكلها الأرض أبدا فيه يركب الخلق يوم القيامة . قالوا : أي عظم هو يا رسول الله ؟ قال : عجب الذنب " . ورواه الإمام مالك ، وأبو داود ، والنسائي باختصار ، قال :

" كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب ، منه خلق ، وفيه يركب " . قال الحافظ المنذري كغيره : عجب الذنب بفتح العين المهملة [ ص: 166 ] وإسكان الجيم بعدهما باء موحدة أو ميم ، وهو العظم الحديد الذي يكون في أسفل الصلب ، وأصل الذنب من ذوات الأربع .

وقد روى الإمام أحمد ، وابن حبان في صحيحه من حديث ابن سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه " قيل :

وما هو يا رسول الله ؟ قال : " مثل حبة خردل منه تنبتون " ، وفي الثعلبي في تفسير سورة الأعراف ، وتفسير ابن عطية عن أبي هريرة - رضي الله عنهم : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى يعني - نفخة الصعق - أمطر عليهم أربعين عاما كمني الرجال من ماء تحت العرش - يعني ماء الحيوان - فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم في أعينهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه ، عند ذلك يقولون : ياويلنا من بعثنا من مرقدنا .

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :

" أنا سيد ولد آدم ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " . وفي صحيح البخاري " أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا بموسى عليه السلام متعلق بالعرش ، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة ؟ " - وفي بعض ألفاظ البخاري - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ " ، وأخرج الحكيم ، والترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم ، ويمينه على أبي بكر ، وشماله على عمر فقال : هكذا نبعث يوم القيامة .

وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله قال الله تعالى ( الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ) أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه ؟ .

وقال قتادة حين بلغه : بلى وعزة ربنا ، وروى النسائي ، والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :

" يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون [ ص: 167 ] من عصارة أهل النار طينة الخبال " . وروى البزار من حديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعا " يبعث الله يوم القيامة ناسا في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم فيقال ما هؤلاء في صور الذر ؟ فيقال :

هؤلاء المتكبرون في الدنيا
، وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " يجاء بالجبارين ، والمتكبرين يوم القيامة رجال في صورة الذر تطؤهم الناس من هوانهم على الله حتى يقضى بين الناس ، قال : ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار " قيل يا رسول الله ، وما نار الأنيار ؟ " قال عصارة أهل النار " . وروي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :

" الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه ، وفي إسناده يحيى بن أيوب ، وهو الغافقي المصري احتج به البخاري ومسلم وغيرهما وله مناكير ، قال أبو حاتم : لا يحتج به ، وقال الإمام أحمد : سيئ الحفظ ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقد قال كل من وقفت على كلامه من أهل اللغة : إن المراد في ثيابه التي قبض فيها : أي في أعماله ، قال الهروي ، وهذا كحديثه الآخر :

يبعث العبد على ما مات عليه .

قال :

وليس قول من ذهب إلى الأكفان بشيء ؛ لأن الميت إنما يكفن بعد الموت . انتهى .

قال الحافظ المنذري ، وفعل أبي سعيد راوي الحديث يدل على إجرائه على ظاهره ، وأن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها ، وفي الصحاح ، وغيرها : إن الناس يبعثون عراة . فالله أعلم ، وحمل كثير من العلماء الحديث على الشهداء الذين أمر أن يدفنوا في ثيابهم التي قتلوا فيها ، وأن أبا سعيد سمع الحديث في الشهداء فحمله على العموم .

قال البيهقي :

يجمع بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم بثيابه ، أو يخرجون من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر .

وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة .

وفسره بعضهم بقبض شماله بيمينه ، والانحناء هكذا .

وبإسناده عن أبي صالح السمان : يبعث الناس يوم القيامة هكذا ، ووضع إحدى يديه على الأخرى .

نقله الحافظ ابن رجب في كتابه الذكر والانكسار ، والله أعلم :

التالي السابق


الخدمات العلمية