ولما أنهينا الكلام على الحساب بحسب ما يليق بهذا الكتاب ثنينا العطف على شرح المشار إلى ذلك في قوله ( ( و ) ) كذا وقوف الخلق لأخذ ( ( الصحف ) ) جمع صحيفة ، وهي الكتب كتبتها الملائكة ، وأحصوا ما فعله كل إنسان من سائر أعماله في الدنيا القولية والفعلية ، وقيل هي صحف تكتبها العباد في قبورها قال تعالى : الصحف والميزان
( وإذا الصحف نشرت ) قال الثعلبي :
أي التي فيها أعمال بني آدم نشرت للحساب ، وإنما يؤتى بالصحف إلزاما للعباد ، ورفعا للجدل والعناد .
وقال تعالى : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) قال العلماء :
معنى ( طائره ) عمله ، وقال مقاتل والكلبي : خيره وشره معه لا يفارقه ، وهو معنى الأول . وقال تعالى : ( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) وفي الآية الأخرى ( فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) والفتيل هو القشر الذي في شق النواة ، وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير .
وذكر مجاهد عن - رضي الله عنهما - أن المراد بالفتيل الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته . ابن عباس
قال العلامة الشيخ مرعي :
وإنما خص القراءة بمن أوتي كتابه بيمينه دون من أوتيه بشماله لأن أهل الشمال إذا طالعوا [ ص: 181 ] كتابهم وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة ، والقبائح الكاملة فيتولى الخوف والدهش على قلوبهم ، ويثقل لسانهم ، ويعجزون عن القراءة الكاملة بخلاف أصحاب اليمين فإنهم إذا طالعوا صحف حسناتهم ، وجدوها على الكمال فيقرءون كتابهم على أحسن الأحوال وأتمها ، ثم لم يقنع أحد بقراءته حتى يقول لأهل المحشر :
هاؤم اقرءوا كتابيه - كما قال الفخر ، وغيره . وقال تعالى :
( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا ) .
والحاصل أن نشر الصحف وأخذها باليمين والشمال مما يجب الإيمان به ، وعقد القلب بأنه حق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع ، فقد أخرج عن العقيلي أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" الكتب كلها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة يبعث الله ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل " ، أول خط فيها ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) " قال قتادة :
سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا ، وأخرج الديلمي عن - رضي الله عنه - مرفوعا : " أبي هريرة عنوان كتاب المؤمن يوم القيامة حسن ثناء الناس عليه " .
وقال - رضي الله عنه - وأخرج ابن مسعود الترمذي من حديث - رضي الله عنه - قال : أبي هريرة
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " . يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله
" وأخرجه البيهقي من حديث - رضي الله عنه ، ولفظه : " ابن مسعود " . وأما العرضة الثالثة فتطاير الكتب في الأيمان والشمائل
قال الحكيم الترمذي : الجدال للأعداء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا أو قامت حجتهم ، والمعاذير لله يعتذر إلى آدم وإلى أنبيائه ، ويقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعث بهم إلى النار ، والعرضة الثالثة للمؤمنين ، وهو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتب من يريد عتابه في تلك الخلوات حتى يذوق وبال [ ص: 182 ] الحياء والخجل ثم يغفر لهم ويرضى عنهم .
وأخرج عن ابن المبارك قال : أبي عثمان النهدي فيقرأ سيئاته فيتغير لونه ، ثم يقرأ حسناته فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات ، فعند ذلك يقول هاؤم اقرءوا كتابيه . إن المؤمن ليعطى كتابه في ستر من الله
وأخرج مكي في تفسيره عن الصديقة - رضي الله عنها - قالت : أم المؤمنين عائشة يا رسول الله كيف يحاسب حسابا يسيرا ؟ قال : " يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ، ويقرئ الناس حسناته ثم يحل الصحيفة فيحول الله حسناته فيقرؤها الناس فيقولون : ما كان لهذا العبد من سيئة " فهذا تفسير قوله تعالى :
( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ) أهله هم أهل الجنة كما في البهجة .
وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن حبان والبيهقي ، والبزار عن وابن أبي حاتم - رضي الله عنه - مرفوعا في قوله تعالى : أبي هريرة
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) قال يدعى الرجل فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ستين ذراعا ، ويبيض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه ، فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا ، وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول : أبشروا فإن لكل واحد منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ، ويمد في جسمه ستون ذراعا ، ويجعل على رأسه تاج من نار ، ويراه أصحابه فيقولون : اللهم إنا نعوذ بك من هذا ، اللهم لا تأتنا بهذا ، فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه ، فيقول أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا . (
وأخرج الإمام أحمد عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : " أما عند ثلاث فلا ، عند الميزان حتى يعلم أيثقل أم يخف ، وعند تطاير الكتب فإما أن يعطى بيمينه أو شماله ، وحين يخرج عنق من النار " الحديث . عن