اعلم أنه لما كان أفضل خلق الله تعالى نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بقية أولي العزم ، ثم الرسل ، ثم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بعد الأنبياء أفضل البشر الصحابة - رضي الله عنهم - . ويأتي ذكر الخلاف في التفاضل بينهم وبين الملائكة - أعقب ذكر الأنبياء بالصحابة حسب اصطلاح أصحابنا ومن وافقهم ، وبدأ بأفضلهم الإمام على التحقيق ، وخليفة رسول [ ص: 311 ] الله - صلى الله عليه وسلم - بالتصديق : الصديق الأعظم - فقال : أبو بكر الصديق - رضي الله عنه
( ( وليس في الأمة بالتحقيق في الفضل والمعروف كالصديق ) )
( ( وليس في الأمة ) ) أي أمة الإسلام ، وهم أمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأل فيها للعهد الذهني ، وتقدم أنها أفضل الأمم ، فيكون الصديق أفضل البشر بعد سائر الأنبياء ، ( ( بالتحقيق ) ) الثابت المنصوص والتدقيق البات المخصوص ، ( ( في الفضل ) ) بجميع أنواع الفضائل ( ( و ) ) بذل ( ( المعروف ) ) من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ( ( ك ) ) أبي بكر ، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة كما قاله ، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عبد البر عبد الله ولقبه بـ ( ( ) ) ، قال الصديق ابن قتيبة : ولقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عتيقا لجمال وجهه ، وكان - رضي الله عنه - يحلف بالله أن الله تعالى أنزل اسم علي بن أبي طالب أبي بكر - رضي الله عنه - من السماء الصديق ، فهو ، يجتمع نسبه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب مرة بن كعب ، وأم الصديق أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب ، بنت عم أبيه ، ماتت هي وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو مسلمين - رضوان الله عليهم - ، فإن الصديق - رضي الله عنه - جاء بأبيه يوم الفتح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ، وتوفي بعد موت أبي بكر - رضي الله عنهما - في خلافة - رضي الله عنه - ، وهو أول الناس إيمانا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على قول جمع من أهل العلم ، وفي سنن عمر بن الخطاب الترمذي من حديث - رضي الله عنه - : قال أبي سعيد الخدري أبو بكر - رضي الله عنه - : ألست أول من أسلم ؟ ألست صاحب كذا ؟ الحديث . وقيل : بل أول من آمن - رضي الله عنه - ونقل علي بن أبي طالب الحاكم اتفاق المؤرخين عليه ، واستنكر هذا منه ، وقيل : ، وقيل : زيد بن حارثة ، وادعى خديجة الثعلبي الاجماع فيه ، وأن الخلاف إنما هو في من بعدها ، وصوبه كثير واستظهره البرماوي وغيره ، وقيل : أولهم بلال بن حمامة ، وقيل : حكاهما خباب بن الأرت المسعودي ، [ ص: 312 ] وقيل : ، ونقل خالد بن سعيد بن العاصي الماوردي في أعلام النبوة عن ابن قتيبة أن أول من آمن به أبو بكر بن أسعد الحميري ، ونقل ابن سبع في الخصائص عن - رضي الله عنه - أنه قال : كنت أولهم إسلاما . ويروى عن عبد الرحمن بن عوف أبي حنيفة الإمام - رضي الله عنه - أنه قال : الأورع أن يقال : أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ، ومن الصبيان علي ، ومن النساء ، ومن الموالي خديجة زيد ، ومن العبيد بلال . وهذا من أحسن ما قيل لجمعه الأقوال . وأسلم على يد الصديق ، عثمان بن عفان والزبير ، وطلحة ، ، وعبد الرحمن بن عوف . قال وسعد بن أبي وقاص الحافظ ابن الجوزي في منتخب المنتخب : وهو أول من جمع القرآن ، و ( أول من ) قاء تحرجا من الشبهات ، وأول من سمى القرآن مصحفا ، وأول من سمي خليفة ، وأخرج عن الإمام أحمد قال : قيل ابن أبي مليكة لأبي بكر : يا خليفة الله ، فقال : أنا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا راض به . وأول من ولي الخلافة وأبوه حي ، وأول خليفة مات وأبوه حي ، وأول من اتخذ بيت المال .
ومناقبه - رضي الله عنه - لا تحصى ، ومزاياه ومآثره لا تستقصى ، وهو أفضل الصحابة وخيرهم بإجماع أهل السنة ، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن - عليهم الصلاة والسلام - أبو بكر ، ثم أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، ثم سائر العشرة ، ثم باقي أهل بدر ، ثم باقي أهل أحد ، ثم باقي أهل بيعة الرضوان ، ثم باقي الصحابة ، هكذا إجماع أهل الحق أفضل هذه الأمة بعد نبيها فأبو بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم - لا ينازع في ذلك إلا زائغ ، وقد أخرج ، وغيره من أمير المؤمنين الإمام أحمد - رضي الله عنه - أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها علي بن أبي طالب أبو بكر ، وعمر .
قال : هذا متواتر عن الحافظ الذهبي علي - رضي الله عنه - فلعن الله الرافضة ما أجهلهم . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية : قد نقل عن علي - رضي الله عنه - من نحو ثمانين وجها : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وذكر نحو ذلك كما في لابن الحنفية ، البخاري والرافضة تكذبه فهم مع علي كالنصارى مع المسيح ، واليهود مع موسى - عليهما [ ص: 313 ] السلام - . وأخرج الحاكم عن النزال بن سبرة قال : قلنا - رضي الله عنه - : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن لعلي بن أبي طالب أبي بكر ، فقال : ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد ، كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا . إسناده جيد .
وأخرج الدارقطني والحاكم عن أبي تحيا قال : لا أحصي كم سمعت عليا يقول على المنبر : إن الله سمى أبا بكر على لسان نبيه صديقا . وأخرجه بسند صحيح عن الطبراني حكيم بن سعد قال : سمعت عليا يحلف بالله لأنزل الله اسم أبي بكر من السماء الصديق . وقال علي - رضي الله عنه - في قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) هو أبو بكر ، فأخرج البزار أن وابن عساكر عليا - رضي الله عنه - قال في تفسيرها : إن الذي جاء بالحق هو محمد ، والذي صدق به هو أبو بكر . قال : هكذا الرواية بالحق ، ولعلها قراءة ابن عساكر لعلي . انتهى .
وقيل : إنه إنما سمي صديقا ، لأنه أول من صدق بناء على أنه أول من آمن ، ولهذا قال أبو محجن الثقفي فيه :
وسميت صديقا وكل مهاجر سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد وكنت جليسا في العريش المشهر
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
وأخرج أبو نعيم عن فرات بن السائب قال : سألت قلت : ميمون بن مهران علي أفضل أم أبو بكر وعمر ؟ قال : فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ، ثم قال : ما كنت أظن أني أبقى إلى زمان يعدل بهما لله درهما ، كانا رأس الإسلام . قلت : فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي ؟ قال : والله لقد آمن أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - زمن بحيرا الراهب حين مر به ، واختلف فيما بينه وبين حتى أنكحها إياه ، وذلك كله قبل أن يولد خديجة علي .
وأخرج عن ابن إسحاق ميسرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا برز سمع من يناديه : يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا ، فأسر ذلك إلى أبي بكر ، وكان صديقا له في الجاهلية . وفي صحيح عن البخاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أبي الدرداء " . هل أنتم تاركون لي صاحبي ، إني قلت : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم كذبت وقال : أبو بكر صدقت
قال وغيره من حفاظ الإسلام ، وأئمتهم : صحب الحافظ الذهبي أبو بكر - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفي ، لم يفارقه سفرا ولا حضرا إلا فيما أذن له - صلى الله عليه وسلم - في الخروج فيه من حج أو غزو ، وشهد معه المشاهد كلها ، وهاجر معه ، وترك عياله وأولاده ، رغبة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رفيقه في الغار قال تعالى : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) وأنفق ماله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أجود الصحابة قال تعالى : [ ص: 315 ] ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله ) إلى آخر السورة قال الحافظ : أجمعوا أنها نزلت في حق ابن الجوزي - رضي الله عنه - . وأخرج أبي بكر الصديق عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أبي هريرة أبي بكر الصديق " . فبكى ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبو بكر وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله . وأخرج أبو يعلى من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا مثله . قال الحافظ ابن كثير : رويناه أيضا من حديث علي وابن عباس وأنس وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - . وأخرجه وأبي سعيد الخدري الخطيب عن مرسلا ، وزاد وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي في مال سعيد بن المسيب أبي بكر كما يقضي في مال نفسه .
وقد أخرج من طرق عن ابن عساكر عائشة أن وعروة بن الزبير أبا بكر - رضي الله عنه - أسلم يوم أسلم ، وله أربعون ألف دينار ، فأنفقها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي صحيح عن البخاري - رضي الله عنهما - قال : قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : محمد بن علي بن أبي طالب أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت . قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين . وفي الصحيحين عن - رضي الله عنه - قال : عمرو بن العاص عائشة ، قلت من الرجال : قال أبوها ، قلت : ثم ؟ قال : عمر بن الخطاب . وقد ورد هذا الحديث بدون قلت : يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال : عمر من رواية أنس - رضي الله عنهم - وأخرج وابن عباس ابن سعد عن قال : الزهري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل قلت في لحسان بن ثابت أبي بكر شيئا ؟ قال : نعم . قال : قل وأنا أسمع ، فقال :
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا
قال الإمام الحافظ وهو من ذريته : كان أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي أبو بكر - رضي الله عنه - أبيض ، نحيفا ، خفيف العارضين ، أجنأ ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه ، معروق الوجه ، غائر العينين ، ناتئ الجبهة ، عاري الأشاجع ، وله من الولد عبد الله وأسماء وأمهما قتيلة ، وعبد الرحمن وعائشة - وأمهما أم رومان ، ومحمد وأمه - ، أسماء بنت عميس وأم كلثوم [ ص: 317 ] وأمها حبيبة بنت خارجة ، وهي التى قال في حقها لعائشة : إنما هو أخواك وأختاك ، وتوفي الصديق - رضي الله عنه - وهو ابن ثلاثة وستين سنة ، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال ، وقيل : وثلاثة أشهر وتسع ليال ، وغسلته زوجته بوصية منه - رضي الله عنها - وصلى عليه أسماء بنت عميس ، وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثا ، منها في الصحيحين ثمانية عشر حديثا ، المتفق عليه منها ستة ، وانفرد عمر بن الخطاب بأحد عشر ، البخاري ومسلم بحديث ، وسبب قلة روايته - رضي الله عنه - أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث ، واعتناء التابعين بسماعها ، وقد ذكر أمير المؤمنين في قصة بيعة الصديق أنه لم يترك شيئا أنزل في عمر بن الخطاب الأنصار إلا ذكره ، ولا شيئا ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأنهم إلا ذكره ، وهذا يدل على كثرة محفوظه من السنة ، وسعة علمه بالقرآن ، وقد روى عنه من الصحابة عمر ، وعثمان ، وعلي ، ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، والبراء بن عازب ، وأبو هريرة ، وابن عمر وابن الزبير ، ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وابن عباس وأنس ، ، وأبو سعيد الخدري ، وعقبة بن عامر الجهني ، وعمران بن حصين ، وأبو برزة الأسلمي ، وجابر بن عبد الله وبلال ، وعائشة ، وأسماء - رضي الله عنهم - ومن التابعين خلائق ، ودفن - رضي الله عنه - في الحجرة الشريفة إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان - رضي الله عنه - قد اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما ومات ، وقيل : سبب موته غير ذلك .