الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تتمة الخبر

ثم قال شاة ليذبحها فقالوا له: لا تفعل فإنا لا نأكل منها، وقال له أحدهم:


بوركت من حزور بذال رحب الفناء عرضة النزال

إن لنا في الأبد الأهمال

قال القاضي: الأبد جمع آبد وآبدة، يجمع أيضا أوابد، وهو الوحشي، يقال: تأبد العير إذا توحش، وهو نقيض تأنس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعير ند من الغنيمة يوم خيبر فرماه رجل من أصحابه بسهم فأثبته: " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا   "، وقال الأعشى:


شبهته هقلا يباري هقلة     ربداء في خيط تطارد أبدا



وقد يقال للربع والمنزل إذا خلا من أهله وأوحش وأقفر قد تأبد، قال الأعشى:


تأبد الربع من سلمى بأحصار     وأقفرت من سليمى دمنة الدار



ويقال: قد أتى فلان بآبدة إذا جاء بكلمة فظيعة أو فعلة موحشة بديعة، وإنه ليأتي بالأوابد. والأهمال ما أهمل ولم يكن له راع.

[ ص: 710 ]

أرفي كل ثرة مجفال



قال ابن دريد: الأرفي: لبن الظباء،  قال القاضي: وقوله: ثرة غزيرة، ويروى بيت عنترة:


جادت عليه كل عين ثرة     فتركن كل قرارة كالدرهم



وقوله: كجفال: أي: كبيرة تعم لسعتها، ومن هاهنا قيل: فلان يدعو الجفلى أي: يعم بعوته، وإذا خص ولم يعم قيل: دعا النقرى، قال طرفة:


نحن في المشتاة ندعو الجفلى     لا ترى الآدب فينا ينتقر



وقال الآخر:


إنا سنجزيك جزاء جزلا     فقد برعت كرما وبذلا
إن بأقصى ذا الكهيف هجلا     فاختف منه جنبا مبتلا
تلقى غنى يطرد عنك الأزلا



قال القاضي: الجهل: الشيء المخبوء الكثير، وقوله: فاختف منه جانبا مبتلا: أي: اكتشفه وأظهره، يقال: اختفى فلان كذا إذا أظهره بعد استتاره، ومثله خفاه، وخفيت الشيء أظهرته، وأخفيته سترته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية يعني النباش والنباشة. وقد ذكرت من وجوه هذا الباب وتصريفه في بعض أوائل مجالسنا هذه وفيما رسمناه من علوم القرآن ما يغني عن إعادته في هذا المكان. وقوله يطرد عنك الأزل بفتح الهمزة الفاقة والفقر والإضاقة، فأما الإزل بكسر الهمزة فالكذب، قال الشاعر:


يقولون إزل حب ليلى وذكرها     وقد كذبوا ما في مودتها إزل



ومن الأزل بمعنى الضيق قول زهير:


تجدهم على خيلتهم إزاءها     وإن أفسد المال الجماعات والأزل



يروى هم إزاءها وعلى أن تجعل في موضع اسم مرفوع، إلا أنه نصب على الظرف، واستقام فيه الوجهان كخلف وأمام، قال لبيد:


فغدت كلا الفرجين تحسب أنه     مولى المخافة خلفها وأمامها



وهذا من الباب الذي أتى على السعة، قال الله تعالى: بل مكر الليل والنهار وإذا جعل إزاؤها بمعنى المختص بالاسمية دون الظرف، وجعل مكانه اسم محض لا يكون ظرفا وكان على أفعل، أو فيه لام وألف اتجه فيه وجهان من الإعراب: الرفع على أنه خبر الابتداء الذي هو هم، وهي لغة أهل نجد وبني تميم، والنصب على أنه مفعول " تجدهم " الثاني، ويكون هم فصلا، وهذه عبارة البصريين من النحويين، فأما كوفيوهم فيسمونها العماد، وكل ما أتى في القرآن من هذا الباب فهو منصوب في قراءتنا ورسم مصاحفنا، وقد حكي رفعه في قراءة ابن مسعود ورسم مصحفه، ففي قراءتنا:

[ ص: 711 ] " ولكن كانوا هم الظالمين " وفي ما روي عن عبد الله: " ولكن كانوا هم الظالمون ". ومما في الشعر نصبا قول الشاعر:


وجدنا آل مرة حين خافوا     جريرتنا هم الأنف الكراما



ومن المرفوع قول الآخر:


أجدك لن تزال نجي تيم     تبيت الليل أنت له ضجيع



وفيما ألفناه من علوم القرآن استقصاء هذا الباب بحججه وشواهده.

فقال الثالث:


إذا احتفرت منكبا فلجف     من عن يمين الجلد المحصوصف
ثم اعتقم قيد الذراع واكشف     عن مثل رأس الكودن المقرف
وثق بعيش غمره لم ينزف



فخرجوا عنه، فقام الغلام إلى حيث وصفوا وحفر كما أمروا، فاستخرج صنما كرأس الكودن من ذهب له عينان من جوهر أحمر، فأصبح الغلام والله أكثر أهل الحواء مالا وأحسنهم حالا.

قال القاضي: قوله: فلجف أي بالغ وأعمق، كما قال الشاعر:


يحج مأمومة في قعرها لجف     فاست الطبيب عليها كالمغاريد



والجلد المحصوصف من الأرض: الصلب الجدد. وقوله " ثم اعتقم قيد الذراع " أي: ذلله بحفرك إياه بعد أن كان في استصعابه بمنزلة العقيم الذي لا يفتح لشدته، وقيد الذراع: قدره ومقياسه ويقال قيد وقدى كما قال الشاعر:


وإني إذا ما الموت لم يك دونه     قدى الشبر أحني الأنف أن أتأخرا



ومنه قاب، قال الله تعالى: فكان قاب قوسين أو أدنى . وقد بينا ما في هذه الكلمة من اللغات في غير هذا الموضع. والكوادن: المقاريف من الخيل، وكذلك الهجين منها، تقصر في كرمها وفضلها عن عتاقها، ورؤوسها أعظم من رؤوس العتاق، فلذلك شبه به الشاعر ما شبه. وقيل في قوله في أول الخبر " واحتلب لبنا فوغره " أنه أسخنه وأودعه إناءه، وأنه أشار بقوله: إن بأقصى ذا الكهيف هجلا إلى كثرة ما أومئ به إليه.

قال القاضي رحمه الله: قوله: هلموا جاء على اللغة النجدية، وقد بينا في مجالس قبل هذا ما في هلم من اللغات بما يغني عن إعادته. وقوله: مدمومة الأوصال إشارة إلى الشاة التي أمرهم بشيها. وقوله: " وقرب إليهم غمره " الغمر: القدح الصغير كما قال الشاعر:


يكفيه حزة فلذ إن ألم بها     من الشواء ويروي شربه الغمر



التالي السابق


الخدمات العلمية