الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
جد أعشى همدان وصاحبه  

حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه، عن عوانة بن الحكم، قال: حدثنا شيخان من همدان قالا: كان نظام بن جشم بن عمر بن مالك بن عبد الجن الهمداني، وهو جد أعشى همدان، واسم الأعشى عبد الرحمن بن الحارث بن نظام، مؤاخيا لأشوع بن أبي مرثد الهمداني وكانا مغوارين فاتكين قرضوبين جوادين - قال ابن دريد: القرضوب: الذي يأخذ كل ما لاح له - لا يليقان شيئا، قال القاضي: يقال للصوص: قراضبة، ويقال للفقير قرضوب، قال الشاعر:


قوم إذا صرحت كحل فدارهم كهف الضعيف ومأوى كل قرضوب

رجع الحديث: لا يليقان شيئا، فخرجا يريدان الغارة على مهرة ابن حيدان، وكان يختلسان الصرمة ثم يشلانها مجاهرة، فإن أدركا رميا فلم يسقط لهما سهم، قال ابن الكلبي: قال أبي، قال عوانة: سمعت من أثق به من رجال همدان يخبر أن السرب من القطا كان يمر بهما طائرا فيقولان: أيها تريدون؟ فيومأ إلى الواحدة منها فيرميانها فلا يخطئان، وكذلك الظباء، وبين بلاد همدان وبلاد مهرة مفازة منكرة، لا تسلكها الخيل وتسوخ فيها أخفاف الإبل فتصب فيها أودية مهرة وأودية الحوف، وهي سبخة ملحة نشاشة، لا تنبت عودا ليس العكرش، قال: ففوزا أياما وشول ماؤهما وخافا الهلاك، فأبصرا يوما مع ذرور الشمس طيرا تحوم على غمض من الأرض، فقال أحدهما لصاحبه: ألا ترى ما أراه، فقال: بلى والله إنها لتحوم على لحم أو ماء، وأيها كان فهو ملك أو وشل فقصدا الجهة حتى هبطا غائطا ذا خبراوات ونقعان، فأناخا وشربا وسقيا وعضدا لراحلتيهما، واستظلا ببعض تلك الشهر، فبينا كذلك إذ مر بهما أمعوز، وهو جماعة من الظباء، فرمياه فصرعا ظبيين وأورقا وأوريا واشتويا وقعدا يرقبان الليل ليستدلا بالنجوم، [ ص: 104 ] فإذا سواد مقبل فأخمرا راحلتيهما، قال ابن دريد: أي وارياها تحت الشجر، قال القاضي: وهو الخمر، قال الشاعر:


ألا يا زيد والضحاك سيرا     فقد جاوزتما خمر الطريق

وطلعا دوحة فتغيبا في شعابها فإذا صرمة زهر كالصوار يحدوها عبد أسود وهو يقول:


روحي إلى خير أبي المعارك


لمبرك من أرحب المبارك


فإن بيت أضيافه هنالك


فأبشري بوقع عضب باتك


يبتر منك أسوق البوائك

فما غاب الأول عن أعيننا حتى بدت صرمة أخرى يحدوها عبد أسود، وهو يقول:


روحي إلى مبركك الدماثر     إلى فتى كهبان والمهاجر
وعصمة المعتر والمهاجر     والليث في اليوم العماس الخادر

قال ابن دريد: العماس الشديد -


فإن منيت بمضاف زائر     فأيقني بوقع عضب باتر
ثم اعتراق بشفار جازر     مخطرف للجلة البهازر

فلما غاب الراعيان عن أعيننا خرجنا نقتفي آثار الإبل، حتى قربنا من الحلة فأنخنا فلما هدأت الرجل خرجنا مصلتين حتى انتهينا إلى المبرك فاستثرنا من إطراره صرمة فشللناها ليلتنا، حتى إذا انحسر خدر الليل وذر الشروق إذا شبح يهوي إلينا هوي العقاب، فما ارتد الطرف حتى أثبتناه نظرا، فإذا رجل على ناقة كأنها ظبي صرع، قال القاضي: الصرع الذي بين الكبير والصغير، قال الأعشى يصف وعلا:


قد يترك الدهر في خلقاء راسية     وهيا وينزل منها الأعصم الصرعا

فأيه بالصرمة فانكفأت راجعة، فأقبلنا نصورها أي نعطفها ونميلها كما قال الشاعر:


وفرع يصير الجيد وحف كأنه     على الليت قنوان الكروم الدوالح

وقال الشاعر:


وجاءت خلعة دهس صفايا     يصور عنوقها أحوى زنيم

ويقال أيضا: صار يصير كما قال الشاعر:

وفرع يصير . . . البيت وقد قرئ: فصرهن إليك وقصرهن.. والمعنى الميل، وقيل: القطع، وبيان هذا في كتبنا في علوم القرآن مستقصاة.

رجع الحديث، وهي سرع إلى تأييهه، فلما دنا منا قال: خليا عنها لا أم لكما، فقلنا: ولا نعمى عين، وبوأنا له سهمين فأقحم من راحلته كالوعل المذعور، وانتضى سيفه وثنى رأسه في درقته، فوالله ما أرسلنا سهمينا حتى خالطنا، فضرب عرقوبي ناقة صاحبي [ ص: 105 ] فغادرها نكوس، وأهوى للأخرى فبتر عرقوبها وهو يقول:


علام أسقي رسلها وأمنح     وأشبع الضيف بها وأجرح
إن لم أقاتل دونها وأضرح     عنها إذا خام الكمي الشحشح

ثم قال: استأسرا، فتذامرنا وإن أنفسنا لتنازعا إلى ما قال، فكررنا عليه بأسيافنا فوثب وثبات الفهد، فوقف حجرة وفوت النبل ثم كر راجعا، فضرب درقة صاحبي فاقتدها، فلما رأينا ذلك استسلمنا وقلنا عياذا بك يا ابن الكرام، فقال: بمعاذ عذتما، وسألنا عن أنسابنا فأخبرناه، فقال: ارتدفا على راحلتي واصرفا وجهتها شطر مطلع الشمس تبلغكما الحي، فخبت بنا الناقة تهوي لا تملكنا من أمرنا شيئا حتى وردت بنا الحي، فكلا ولا إذ أقبل ضاحكا كأنه لم تمسسه مشقة، وقد مشى مسيرة ليلة للراكب المجد، فقال: دونكما الصرمة التي اطردتماها وناقتين من سر إبلي برحليهما وحملنا وسرحنا، فقال: اسمعا ما أقول لكما، فقال:


أقول لخاربي همدان لما     أثارا صرمة حمرا وعيسا
ألم تعلما أن لن تفوتا     وأن لن تعجزا الليث الهموسا
فظن عاجز أن تسلباني     ومن ذا يسلب الليث الفريسا
ومن دون الذي أملتماه     ضراب يقطر البطل البليسا
إذا أنا لم أذد عن مدفآت     فيحدو بيدها الحزن الشريسا
فمم أجنب الأضياف ذمي     إذا النكباء أوجفت البئيسا
ومما أحسب الجمم اللواتي     يظل لها الرجال إلي شوسا
ومما أنعش العفى إذا ما     تراءى وجه دهرهم عبوسا
أهيبا خاربي همدان منها     بزهر تطرد الفقر الضروسا
وأوبا سالمين بها ولما     أثر لكما النآد المرمريسا

قال ابن دريد: يريد الداهية، قال القاضي: أحسب الجمم معناه أنيلهم ما يكفيهم يقال: أحسبني الطعام وغيره يحسبني أن كفاني، وقولهم حسبك معناه كافيك، وقيل في قوله تعالى: عطاء حسابا معناه عطاء كافيا يحسبهم أي يكفيهم  وقوله: الجمم جمع جمة وهم القوم يسألون في الدية، وقوله: شوسا جمع أشوس وهو الذي ينظر نظرا شديدا، قال الشاعر:


خلا أن العتاق من المطايا     أحسن به فهن إليه شوس

وقوله: ومما أنعش العفى، معنى أنعش أرفع، وقولهم: نعشك الله أي رفعك إما بسد [ ص: 106 ] خلتك أو بإقالة عثرتك وما أشبههما، ومنه قيل لسرير الميت نعش لأنه يرفع عليه، وقوله: العفى جمع عاف وهو السائل للحاجة وطالبها، يقال: عفا فلان فلانا يعفوه إذا سأله ورغب إليه في حاجته، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم أحد "لولا أن يحزن ذلك نساءنا لتركنا حمزة بالعراء تأكله عافية الطير" يقال: عاف وجماعة عافية مثل كاف وجماعة كافية، ويقال للعافي: معتف، وهو مفعل منه قال الشاعر:


ترى حولهن المعتفين كأنهم     على صنم في الجاهلية عكف

جمع العافي أيضا عفاة، مثل كاف وكفاة وساق وسقاة وقاض وقضاة في أشباه لهذا كثيرة جدا، ومن هذا قول الأعشى:


تطوف العفاة بأبوابه     كطوف النصارى ببيت الوثن

وجمع العافي في الشعر الذي بلغ في هذا الخبر عفى على وزن فعل مثل غاز وغزى هاد وهدى، قال الله عز وجل: أو كانوا غزى ومثله في الصحيح راكع وركع وساجد وسجد، قال الراجز يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:


إن قريشا أخلفوك الموعدا


ونقضوا ميثاقك المؤكدا


وقتلونا ركعا وسجدا

وقال الله تعالى: والركع السجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية