الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قصة غريبة مما كان يرد على القضاة  

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، فقال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال حدثنا داود بن [ ص: 144 ] محمد بن يزيد، عن أبي عبد الله النباجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور وهو قاض فقال له أبو جعفر: إن القاضي قد يرد عليه من طرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي، فقال: والله لقد ورد علي - منذ ثلاث - أمر ما ورد علي مثله، أتتني عجوز تكاد أن تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي، قلت: من خصمك؟ قالت: ابنة أخ لي، فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة فجلست منبهرة، فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إن هذه ابنة أخي وأوصى إلي بها أبوها، فربيتها فأحسنت التربية، ووليتها فأحسنت الولاية، وأدبتها فأحسنت التأديب، ثم زوجتها ابن أخ لي، ثم أفسدت علي بعد ذلك زوجي، فقلت لها: ما تقولين؟ قالت: يأذن لي القاضي أن أسفر فأخبر بحجتي؟ فقالت: يا عدوة الله تريدين أن تسفري فتفتني القاضي بجمالك، فقال: فأطرقت خوفا من مقالتها، وقلت: تكلمي، فقالت: صدقت أصلح الله القاضي، هي عمتي أوصى بي إليها أبي وربتني فأحسنت ووليتني فأحسنت وأدبتني فأحسنت، وزوجتني ابن عم لي وأنا كارهة، فلم أزل حتى عطف الله بعضنا على بعض واغتبط كل واحد منا بصاحبه، ثم نشأت لها بنية فلما أدركت حسدتني على زوجي ودأبت في فساد ما بيني وبينه، وحسنت ابنتها في عينه حتى علقها وخطبها إليها، فقالت: لا أزوجك حتى تجعل أمر امرأتك بيدي ففعل، فأرسلت إلي: أي بنية إن زوجك قد خطب إلي ابنتي فأبيت أن أزوجه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثا، فقلت صبرا لأمر الله وقضائه، فما لبثت أن انقضت عدتي فبعث إلي زوجها: إني قد علمت ظلم عمتك لك وقد أخلف الله عليك زوجا فهل لك فيه؟ قلت: من هو؟ قال: أنا، وأقبل يخطبني فقلت: لا والله حتى تجعل أمر عمتي في يدي ففعل، فأرسلت إليها: إن زوجك قد خطبني فأبيت عليه إلا أن يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثا، فلم يزل حيا حتى توفي رحمة الله عليه، ثم لم ألبث أن عطف الله قلب زوجي الأول فتذكر ما كان من موافقتي إياه فأرسل إلي: هل لك في المراجعة، قلت: قد أمكنك ذلك، فخطبني فأبيت إلا أن يجعل أمر بنتها في يدي ففعل، فطلقتها ثلاثا، فوثبت العجوز وقالت: أصلح الله القاضي، فعلت هذا مرة وفعلته هي مرة بعد مرة، فقلت: إن الله تبارك وتعالى لم يوقت لهذا وقتا، وقال: "ومن بغي عليه لينصرنه الله".

التعليق على الخبر

قال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة أخيها وهي في حباله، وأرى أن الجارية أرادت أن يتولى التفريق بينه وبينها، استيفاء منها ومجازاة لها على فعلها، وقد رويت لنا هذه القصة عن طريق آخر وفيها مخالفة لهذه الرواية في السند والمتن معا، وأنا [ ص: 145 ] ذاكرها ليستوفي الناظر في كتاب هذا الأمرين جميعا بمشيئة الله وعونه.

حدثنا محمد بن داود بن سليمان النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سهل السامري بفلسطين، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الإمام، قال: حدثني محمد بن الخليل، قال: أخبرني روح بن حرب السمسار، قال: كنت في دار الطيالسة فإذا الهيثم بن عدي حاضر، قال: سمعت محمد بن أبي ليلى يقول: كنت يوما في مجلس القضاء فوردت علي عجوز ومعها جارية شابة، قال: فذهبت العجوز تتكلم قال: فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي وحجتها، فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي سفرت، قال: فقلت: أسفري، قال: فقالت العجوز: إن سفرت قضيت لها علي، قال: قلت: أسفري، فأسفرت والله عن وجه ما ظننت أن يكون مثله إلا في الجنة، فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي، مات أبي وتركني يتيمة في حجرها فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت: يا بنية! هل لك في التزويج؟ قلت: ما أكره ذلك يا عمة، هكذا كان؟ قالت العجوز: نعم. قالت فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض لي إلا رجلا صيرفيا فزوجتني، فكنا كأننا ريحانتان ما يظن أن الله تعالى خلق غيري، ولا أظن أن الله عز وجل خلق غيره، يغدو إلى سوقه ويروح علي بما رزقه الله، فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على ذلك، قالت: فكانت لها ابنة فسوقتها وهيأتها لدخول زوجي علي فوقعت عينه عليها، فقال لها: يا عمة! هل لك أن تزوجيني ابنتك؟ قالت: نعم بشرط، قال لها: وما الشرط؟ قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي، قال: قد صيرت أمرها إليك، قالت: فإني قد طلقتها ثلاثا بتة، وزوجت ابنتها من زوجي، فكان يغدو عليها ويروح كما كان يغدو علي ويروح. فقلت لها: يا عمة! تأذنين لي أن أنتقل عنك، قالت: نعم، فانتقلت عنها، قالت: وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزله، قال: مالي لا أرى ربيبتنا؟ قالت تزوجت وطلقها زوجها فانتقلت عنا، فقال لها: علينا من الحق ما نعزيها بمصيبتها، قالت: فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، قالت: فلما دخل علي سلم وعزاني بمصيبتي ثم قال لي: إن في بقية من الشباب فهل لك أن أتزوجك؟ قلت: ما أكره ذاك ولكن على شرط، قال لي: وإيش الشرط؟ قلت: تصير أمر عمتي بيدي، قال: فإني قد صيرت أمرها بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثا بتة، قالت: وقدم بثقله علي من الغد ومعه ستة آلاف درهم، فأقام عندي ما أقام ثم إنه اعتل فتوفي، فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول يعزيني بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، فلما دخل علي قال: يا فلانة! إنك لتعلمين أنك كنت أحب الناس إلي وأعزهم علي، وقد حل لنا الرجعة فهل لك في ذلك؟ قلت: ما أكره ذلك ولكن تصير أمر ابنة عمي بيدي، قال: فإني قد فعلت صيرت أمر ابنة عمتك بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثا بتة، أصلح الله [ ص: 146 ] القاضي، فرجعت إلى زوجي، فما استعداؤها علي، فقال ابن أبي ليلى: واحدة بواحدة والبادي أظلم، قومي إلى منزلك. قال ابن أبي ليلى: فحدثت الهادي بذلك، فقال: ويحك يا محمد! ما سمعت حديثا أحسن من هذا، أنا أحب أن أحدث به الخيزران، يعني أمه.

قال القاضي: وقصة هذا الخبر كقصة المقدم له في أنه لا يحل الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح، وأن التماس هذه الجارية من خاطبها تمليكها طلاق عمتها وبنتها من حباله لما وصفنا أنها أرادت أن تشفي غيظها وتتولى التفريق بينها وبين زوجها بنفسها مقابلة لها على ما ابتدأتها به من إساءتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية