الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن توليه القضاء  

حدثنا محمد بن زياد المقري، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج بنيسابور، قال: أخبرنا داود بن رشيد، قال: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن خبره في اتصاله بالمهدي طريف، إن أحببت شرحته لك، قلت: قد والله أحببت ذلك، قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال له الربيع: يا هذا! وما حاجتك؟ قال: أنا رجل رأيت لأمير المؤمنين أعزه الله رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له، قال: له الربيع: يا هذا! إن القوم لا يصدقون ما يرونه لأنفسهم فكيف ما تراه لهم، فاحتل بحيلة هي أرد عليك من هذه، فقال له: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه، فأخبرته أني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل، فدخل الربيع على المهدي فقال له: يا أمير المؤمنين إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم، فقد احتالوا لكم بكل ضرب، فقال له المهدي: هكذا تصنع الملوك فما ذلك؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين أيده الله رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليه، فقال له المهدي: ويحك يا ربيع! إني والله أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها لي من لعله قد افتعلها؟ قال: قد والله قلت له مثل ذلك فلم يقبل، قال: فهات الرجل، قال: فأدخل عليه سعيد بن الرحمن وكان له رواء وجمال ومروءة ظاهرة ولحية عظيمة وعارضة ولسان، فقال له المهدي: هات بارك الله عليك، ماذا رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين آتيا أتاني في منامي فقال لي: إن أمير المؤمنين المهدي يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنه يقلب يواقيت ثم يعدها فيجدها ثلاثين ياقوتة كأنها قد وهبت له، فقال له المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما خبرتنا، فإن كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما أخلفت، قال له سعيد: يا أمير المؤمنين فماذا أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله ثم رجعت صفرا؟ قال له المهدي: فكيف نعمل؟ قال: يعجل لي أمير المؤمنين أعزه الله ما أحب وأحلف له بالطلاق أني قد صدقت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمر أن يؤخذ منه كفيل ليحضر في غير ذلك اليوم، فقبض المال وقيل: من يكفل بك، فمد عينه إلى خادم له حسن الوجه والزي فقال: هذا يكفل بي، فقال له المهدي: أتكفل به يا تملك، فاحمر وخجل وقال: نعم يا أمير المؤمنين، فكفل به وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بعشرة آلاف درهم، فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكر له سعيد حرفا حرفا، وأصبح سعيد فوافى الباب واستأذن فأذن له، فلما وقعت [ ص: 148 ] عين المهدي عليه قال: أين مصداق ما قلت لنا؟ قال له سعيد: وما رأى أمير المؤمنين شيئا؟ فضجع في جوابه، فقال له سعيد: امرأتي طالق إن لم يكن رأيت شيئا، قال له المهدي: ويحك! ما أجرأك على هذا الحلف بالطلاق! قال: لأني أحلف على صدق، قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبينا، فقال له سعيد: الله أكبر، فأنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني، قال له: حبا وكرامة، ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت ثيابا من كل صنف، وثلاث مراكب من أنفس دوابه محلاة، فأخذ ذلك وانصرف، فلحق به الخادم الذي كفل به، وقال له: سألتك بالله هل كان لهذه الرؤيا التي ذكرتها من أصل؟ قال له سعيد: لا والله، قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له؟ قال هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم، وذلك أني لما ألقيت إليه هذا الكلام خطر بباله وحدث نفسه وأسر به قلبه وشغل به فكره، فساعة نام خيل له ما حل في قلبه وما كان شغل به فكره في المنام، فقال له الخادم: قد حلفت بالطلاق، قال: طلقت واحدة وبقيت معي على ثنتين فأزيد في مهرها عشرة دراهم وأتخلص وأحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاث مراكب فرهة، فبهت الخادم في وجهه وتعجب من ذلك، فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك بي فاستر علي، ففعل ثم طلبه المهدي لمنادمته، وحظي عنده وقلده القضاء على عسكر المهدي فلم يزل على ذلك إلى أن مات.

فهذا كان السبب في وصلة سعيد بن عبد الرحمن بأمير المؤمنين المهدي، فهل سمعت بأعجب من ذلك يا داود؟ قال: لا.

التعليق على هذه القصة

قال القاضي: قول سعيد في هذا الخبر أنه طلق واحدة وبقيت معه على اثنتين وأنه يزيد في مهرها عشرة دراهم، من كلام الحمقى العامة وجهالهم، لأن مطلق امرأته المدخول بها واحدة إن راجعها في عدتها فلا مهر عليه لها،  وإن تزوجها بعد بينونتها فعليه الصداق مبتدئا غير زائد على قدر منه متقدم، وفي حمل سعيد نفسه في هذه القصة على الكذب وخاصة في الرؤيا وإطلاع الخادم على قبيح ما أتاه، وكذبه فيما حكاه، وجعله هذا مكافأة له على كفالته به، واعتماده مسترسلا إليه في ستر رذيلته عليه، دليل على أنه كان بمحل من الغرق، وأن عظم لحيته كان على شكل يدل على السفاهة والحمق. وقد حدثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي قال: حدثنا محمد بن أيوب بن يزيد، قال: حدثنا أحمد بن يعقوب، قال حدثنا مصعب بن خارجة، عن أبيه، من كانت لحيته طويلة فلا يلم في عقله شيء.

حدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي، قال: سمعت عبد الله بن محمود، يقال: نظر [ ص: 149 ] علي بن حجر إلى أبي الدرداء، قال: وهو طويل اللحية فأنشأ يقول:


ليس بطول اللحى يستوجبون القضا     إن كان هذا كذا
فالتيس عدل رضا

قال: ومكتوب في التوراة: لا يغرنك طول اللحى، فإن التيس له لحية.

التالي السابق


الخدمات العلمية