الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
شرب نبيذا ثم لا يدري أطلق امرأته أم لا، وحكم ذلك  

حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان القربي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد التميمي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن معري، قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال: إني شربت البارحة نبيذا فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلقتها، ثم أتى سفيان الثوري فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذا فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئا، ثم أتى شريك بن عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذا ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، ثم أتى زفر بن الهذيل، فقال: يا أبا الهذيل! إني شربت البارحة نبيذا ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: سألت غيري؟ قال: أبا حنيفة، قال: فما قال لك؟ قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك قد طلقتها، قال: الصواب قال، قال: فهل سألت غيره؟ قال: سفيان الثوري، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئا، قال: ما أحسن ما قال! قال: فهل سألت غيره؟ قال: شريك بن عبد الله، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، فضحك زفر وقال: لأضربن لك مثلا، رجل مر بمثغب يسيل فأصاب ثوبه، قال لك أبو حنيفة: ثوبك طاهر وصلاتك تامة حتى تستيقن أمر الماء، وقال لك سفيان: اغسله فإن يك نجسا فقد طهر، وإن يك نظيفا زاد نظافة، وقال لك شريك: اذهب فبل عليه ثم اغسله.

حذف ألف الاستفهام  

قال القاضي: في هذا الخبر: ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، والفصيح ولا أدري أطلقت، غير أنه قد جاء في مواضع بغير ألف اكتفاء بدلالة أم، قال امرؤ القيس:


تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضرك لو تنتظر

وقال آخر:


لعمرك ما أدري وإن كنت داريا     شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر

وقال ابن أبي ربيعة:


فوالله ما أدري وإن كنت داريا     بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقد أجاز قوم حذف ألف الاستفهام وإن لم تكن أم في الكلام، وتأولوا مثل هذا في القرآن، كقوله هذا ربي واستشهدوا بقول الهذلي:


رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع     فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم؟

وقول ابن أبي ربيعة:

ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرا عدد الرمل والحصى والتراب وأنكر هذا بعض نظار [ ص: 157 ] النحويين، إذ فيه عنده التباس الخبر والاستخبار، وقال: الأبيات على الخبر دون الاستفهام.

وقد أحسن زفر في فصله بين هؤلاء الثلاثة فيما أفتوا به في هذه المسألة وفيما ضربه لسائله من الأمثل، وأما قول أبي حنيفة فهو محض النظر ومر الحق، ولا يجوز أن يحكم على امرئ في زوجته بطلاقها بعد صحة زوجيتها، ويقين العلم بثبوت النكاح بينه وبينها، بظن عرض له وحسبان أنه أوقع الطلاق في حال يتغير فيها الفهم، ويزول معها التمييز، وهو أبعد عند ذوي الأفهام، من أضغاث الأحلام، ورؤيا الراقد في المنام، من حال الصحة التي تلزم فيها الأحكام، وتجري فيها الأقلام، فأما ما قال سفيان الثوري فإنه أشار بالاستظهار والتوقفة والأخذ بالحزم والحيطة وهذه طريقة أهل الورع المتقين، وذوي الاستقصاء على أنفسهم من أهل الدين، وفتيا أبي حنيفة في هذا عين الحق وجل الفقه، وأي هاتين المحجتين سلك من نزلت به هذه النازلة، وعرضت له هذه الحادثة فهو مصيب محسن على ما بينا فيها من الفضل بين المنزلتين، وأما ما أفتى به شريك وتعجب زفر منه واقع في موقعه، ولا وجه في الصحة لما أشار به، وقد أصاب زفر أيضا في المثل الذي ضربه له، وأرى أن شريكا توهم أن الرجعة لا تتحقق إلا مع تحقق الطلاق، فأمر باستئناف تطليقة لتصح الرجعة بعدها، وهذا ما لا يحيل فساده، ولو كان كما نرى أنه توهمه لما أثرت الرجعة إلا في التطليقة التي أوقعها وتيقنها دون التي أشفق من تقدمها وهو على غير يقين منها، ولو أن رجلا وكل رجلا في طلاق زوجته، ثم غاب الوكيل فأشفق من تطليقه إياها عليه، وأشهد على رجعتها وهو غير عالم بوقوعها، ثم تبين أنها وقعت قبل مراجعته لصحت رجعته، وكذلك لو كتب إلى زوجته بطلاقها إذا وصل إليها كتابه، ثم أشهد على الرجعة بعد الوصول وقبل انقضاء العدة، لكانت الرجعة صحيحة لوقوعها بعد الطلاق الذي لم يكن عالما به.؟

التالي السابق


الخدمات العلمية