قضية رجل يسب السلف
كنت بحلوان سنة خمس وثلاثين وثلثمائة فاتفق أن شيخا كان يجالسنا بها من أهل الدينور يعرف بأبي الحسن بن ظفران ويؤنسنا، وكان محدثا قد حلب الدهر أشطره، وخالط الرؤساء وصحب السلطان وتعلق بأربه وتصرف في أعماله، وكنا نعجب بمعاشرته وحديثه، وذكر لأبي الحسن بن طاهر الكاتب فعرفه، وذكر أن له ابنا هو خليفته وصاحبه على البريد والخبر بالدينور .
[ ص: 296 ] فحدثنا أبو الحسن بن ظفران هذا من حفظه، بما أنه مورد معناه بلفظ دون لفظه عمن حدثه، قال: بالدينور شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه، ويأخذون عنه، ويدرسون عنه، يقال: له بشر الجعاب فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى المتوكل أن بالدينور رجلا رافضيا يحضر جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض، ويسبون الصحابة، ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتابة إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب كان عبيد الله بن يحيى ذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه وكان صديقا لبشر الجعاب ، حسن المصافاة له، شديد الإشفاق عليه، همه ذلك وشق عليه، فاستدعى بشرا وأقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقال له بشر : عندي في هذا رأي إن استعملته كنت غير مستبطئ فيما أمرت به، وكنت بمنجاة مما أنت خائف علي منه، قال: وما هو، قال: بالدينور شيخ خفاف اسمه بشر ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف ، وليس بمحفوظ عندهم، وما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فسر العامل بقوله وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه، ووصل الباء بما صارت به فاء، وكان أخبره عن بشر الخفاف أنه رجل في غاية البله والغفلة، وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا مالهم منها ماطلوه بدينه، ولووه بحقه، واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت البيادر، ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها وافوا بشرا هذا واعتذروا إليه وخدعوه، وابتدوا يعدونه الوفاء، ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة، والمعاهدة الباطلة، ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم ويستسلم إليهم، ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة وحملوه على ما تقدم من السنة، ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلفه في وقت حاجاتهم، ودفعه عن حقه في أبان غلاتهم، فلا ينتبه من رقدته ولا يفيق من سكره وغفلته، فأنفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقديم هذا الخفاف أمام القول، والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة، ساكنا إلى أنه يأتي من ركاكته وعيه وفهاهته بما يضحك الحاضرين، ويحسم الاشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه البلية، فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم، فأمره أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلقت بينه وبينهم سبنية ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك، وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف ، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر، فقال: أنت بشر الخفاف فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه [ ص: 297 ] الحيلة، وإتمام هذه المدالسة، وجواز هذه المغالطة، فقال: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شيء أنكره فأمر بالكشف عنه، وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون، فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع إليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر : ما أعرف من هذا شيئا، قال: فقد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم فما تقول في السلف، قال: لعن الله السلف، فقال له عبيد الله : ويلك تدري ما تقول؟ فقال: نعم، لعن الله السلف، فخرج خادم من بين يدي المتوكل، فقال لعبيد الله : يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإذا أقام على هذا فاضرب عنقه، فقال له: إني أسألك في هذه المرة فإن لم تثب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي، وأبطل معيشتي، وأتلف مالي وأفقرني، وأهلك عيالي، قال: وكيف؟ قال: أنا رجل أسلف الأكرة وأهل الرستاق الخفاف والتمشكان، على أن يوفوني الثمن مما يحصل لهم من غلاتهم، فأصير إليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فإذا أحرزوا الغلة، دفعوني عن حقي وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي، ويحلفون لي أنهم لا يعاودون مطلي وظلمي، وأنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسروا مالي، فقد اختلت حالي، وافتقرت أنا وعيالي، قال: فسمع ضحك عال من وراء السبنية، وخرج الخادم، فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم، فقالوا: أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار، قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجان يحتالون وصاحب الخبر فطن متيقظ، لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع، قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فيجب أن نتولى نحن الكلام، ونسلك طريق الجد والديانة، ورجعوا فأمروا بالجلوس ثم أقبل عبيد الله عليهم، فقال لهم: إن الذي كتب في أمركم ما كتب ليس ممن يقدم على الكتب بما لم يقتله علما ويحيط به خبرا، وقد أمر أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم، فقالوا له: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: أمير المؤمنين ، فقال لخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد، فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وافق أمير المؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في علي بن أبي طالب أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا: رحمة الله على أبي بكر ، نقول فيه خيرا، قال: فما تقولون في عمر قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، [ ص: 298 ] قال: فسمعنا من وراء السبنية ضحكا أعلى من الضحك الأول، ثم أتى الخادم، فقال لعبيد الله عن المتوكل : أتبعهم صلة فقد لزمهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج.
قال القاضي : فهذه الحكاية تبين أن المتوكل على خلاف ما توهمه ابن الخصيب ، وبمعزل مما نسبه في هذا المعنى إليه، والله تعالى أعلم بالضمائر، وخفيات السرائر، وهو المجازي كل محسن ومسيء بعمله.