الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الشعراء على باب عمر بن عبد العزيز  

حدثنا محمد بن قاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أبو عبد [ ص: 41 ] الرحمن الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: أخبرنا الهيثم بن عدي، عن عوانة بن الحارث، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم، الرحيل، إذ مر بهم رجاء بن حيوة. وكان من خطباء أهل الشام فلما رآه جرير داخلا على عمر أنشأ يقول:


يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا، ثم مر بهم عدي بن أرطاة، فقال له جرير:


يا أيها الراكب المزجي مطيته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه     أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة     قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

قال: فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي! ما لي وللشعر، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم، وأنشد:


رأيتك يا خير البرية كلها     نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا     عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدنسا     وأطفأت بالبرهان نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا     وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه     وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا     وكان مكان الله أعلى وأعظما

قال ويحك يا عدي! من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: أليس هو الذي يقول:


ثم نبهتها فهبت كعابا     طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت     ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري     تتخطى إلي روس النيام
ما تجشمت ما يزين من الأم     ر ولا جئت طارقا لخصام

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم نفسه، لا يدخل علي والله أبدا، فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب، يعني الفرزدق، قال: أو ليس هو الذي يقول:


هما دلتاني من ثمانين قامة     كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا     أحي يرجى أم قتيل نحاذره

[ ص: 42 ] لا يطأ والله بساطي، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل، قال: يا عدي! هو الذي يقول:


ولست بصائم رمضان طوعا     ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكور     إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير يدعو     قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا     وأسجد عند منبلج الصباح

والله لا يدخل علي وهو وكافر أبدا، فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم الأحوص، قال: أليس هو الذي يقول:


الله بيني وبين سيدها     يفر مني بها وأتبعه

غرب عنه، فما هو بدون من ذكرت، فمن هاهنا أيضا؟ قال: جميل بن معمر قال: يا عدي هو الذي يقول:


ألا ليتنا نحيا جميعا وإن تمت     يوافق في موتي ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب     إذا قيل قد سوي عليها صفيحها

فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحا، والله لا يدخل علي أبدا، هل سوى من ذكرت أحد؟ قال: جرير بن عطية، قال: أما إنه الذي يقول:


طرقتك صائدة القلوب وليس ذا     حين الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان لا بد فهو، قال فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:


إن الذي بعث النبي محمدا     جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه     حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا     والنفس مولعة بحب العاجل

فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقولن إلا حقا، فأنشأ جرير يقول:


أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت     أم قد كفاني ما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة     ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده     كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به     خبلا من الجن أو مسا من النشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا     لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني     قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا     ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا     من الخليفة ما نرجو من المطر

[ ص: 43 ]

نال الخلافة إذ كانت له قدرا     كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها     فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا     بوركت يا عمر الخيرات من عمر

فقال: يا جرير! ما أرى لك هاهنا حقا، فقال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيل ومنقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم، وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير! لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية، قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب مما اكتسبته إلي، قال: ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني لراض، وأنشأ يقول:


رأيت رقى الشيطان لا تستفزه     وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وقد كتبنا هذا الخبر من طرق أخرى، والقصص فيها مختلفة في مواضع، على تقارب جملتها ولعلنا نأتي بها فيما يستقبل من مجالس كتابنا هذا إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية