الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حيلة عراقي في أخذ جارية ابن جعفر  

حدثنا أبو النضر العقيلي ، قال : حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم ، عن أبي بكر العجلي ، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة ، قالوا : كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال له عمارة ، وكان يجد بها وجدا شديدا ، وكان لها منه مكان لم يكن لأحد من جواريه ، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه ، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه ، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه ، فأخذه عليها ما لا يملكه ، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها .

ولم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية وأفضى الأمر إليه ، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها وكيف الحيلة فيها ، فقيل له : إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام ، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت ، وأنت لا تستجيز إكراهه ، وهو لا يبيعها بشيء أبدا ، وليس يغني في هذا إلا الحيلة .

[ ص: 350 ] فقال : انظروا لي رجلا عراقيا له أدب وظرف ومعرفة ، فطلبوه فأتوه به ، فلما دخل رأى بيانا وحلاوة وفهما ، فقال يزيد : إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر ، ويد أكافئك عليها إن شاء الله ، ثم أخبره بأمره فقال له : إن عبد الله بن جعفر ليس يرام ما قبله إلا بالخديعة ، ولن يقدر أحد على ما سئلت ، وأرجو أن أكونه والقوة بالله ، فأعني بالمال ، قال : خذ ما أحببت ، فأخذ من طرف الشام وثياب مصر واشترى متاعا للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك ، ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر ، واكترى منزلا إلى جانبه ثم توسل إليه ، وقال : رجل من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به .

فبعث عبد الله إلى قهرمانه أن أكرم الرجل ووسع عليه في نزله ، فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياما وعرفه نفسه وهيأ له بغلة فارهة وثيابا من ثياب العراق وألطافا ، فبعث بها إليه وكتب معها : إني يا سيدي رجل تاجر ونعمة الله تعالى علي سابغة ، وقد بعثت إليك بشيء من لطف وكذا وكذا من الثياب والعطر ، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لرجلك ، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبلت هديتي ، ولا توحشني بردها ، فإني أدين لله تعالى بمحبتك وحب أهل بيتك ، فإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك .

فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة ، فلما رجع مر بالعراقي في منزله فقام وقبل يده واستكثر منه ، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة فأعجب به وسر بنزوله عليه ، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف وطرف ، فقال عبد الله : جزى الله ضيفنا هذا خيرا ، فقد ملأنا شكرا وما نقدر على مكافأته ، فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ودعا عمارة وجواريه ، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه ، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له : هل رأيت مثل عمارة ؟ قال : لا والله يا سيدي ، ما رأيت مثلها ولا تصلح إلا لك ، وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه وحسن غناء ، قال : وكم تساوي عندك ؟ قال : ما لها ثمن إلا الخلافة ، قال : تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجتلب سروري ؟ قال له : يا سيدي والله إني لأحب سرورك ، وما قلت لك إلا الجد ، وبعد فإني تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلبا للربح ، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها ، فقال له عبد الله عشرة آلاف دينار ؟ قال : نعم ، ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن ، فقال له عبد الله : أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار ، قال : وقد أخذتها ، قال : هي لك ، قال : وجب البيع ، فانصرف العراقي .

فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به ، فقيل لعبد الله : قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار ، وقال : هذا ثمن عمارة فردها وكتب إليه : إنما كنت أمزح معك ، ومما [ ص: 351 ] أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها ، فقال له : جعلت فداك ، إن الجد والهزل في البيع سواء ، فقال له عبد الله : ويحك ! ما أعلم جارية تساوي ما بذلت ، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك ، ولكني كنت مازحا ، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي ، فقال العراقي : إن كنت مازحا فإني كنت جادا ، وما اطلعت على ما في نفسك ، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها ، وليست تحل لك وما لي من أخذها من بد .

فمانعه إياها ، فقال له : ليست لي بينة ، ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره ، فلما رأى عبد الله الجد قال : بئس الضيف أنت ، ما طرقنا طارق ولا نزل بنا نازل أعظم علينا بلية منك ، تحلفني فيقول الناس اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه ، أما والله ليعلمن الله جل ذكره أني سائله في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء ، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب ، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار ، وقال : هذا لك ولها عوضا مما ألطفتنا ، والله المستعان .

فقبض العراقي الجارية وخرج بها ، فلما برز من المدينة قال لها : يا عمارة ! إني والله ما ملكتك قط ، ولا أنت لي ، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار ، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأستلبه أحب الناس إليه لنفسي ، ولكنني دسيس من يزيد بن معاوية وأنت له ، وفي طلبك بعث بي فاستتري مني ، وإن داخلني الشيطان في أمرك وتاقت نفسي إليك فامتنعي .

ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس بجنازة يزيد ، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد ، فأقام الرجل أياما ثم تلطف للدخول عليه فشرح له القصة - وروي أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا - فلما أخبره قال : هي لك ، وكل ما دفعه إليك في أمرها فهو لك ، وارحل من يومك فلا أسمع من خبرك في بلاد الشام ، فرحل العراقي ، ثم قال للجارية : إني قلت لك حين خرجت بك من المدينة ، وأخبرتك أنك ليزيد وقد صرت لي ، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر ، فإني قد رددتك إليه فاستتري مني ، ثم خرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريبا من عبد الله بن جعفر ، فدخل عليه بعض خدمه ، فقال له : هذا العراقي ، ضيفك الذي صنع بنا ما صنع وقد نزل العرصة لا حياه الله .

فقال عبد الله : مه ! أنزلوا الرجل وأكرموه .

فلما استقر به ، بعث إلى عبد الله : جعلت فداك ، إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء ؟ فقلت : فأذن له ، فلما دخل سلم عليه وقبل يده وقربه عبد الله ثم اقتص عليه القصة حتى فرغ ، ثم قال : قد - والله - وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك ، ومردودة عليك ، وقد علم الله جل وعز أني ما رأيت لها وجها إلا عندك ، وبعث [ ص: 352 ] إليها فجاءت وجاءت بما جهزها به موفرا ، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشيا عليها ، وأهوى إليها عبد الله وضمها إليه .

وخرج العراقي وتصايح أهل الدار : عمارة عمارة ، فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري : أحلم هذا ؟ أحق هذا ؟ ما أصدق هذا ! فقال له العراقي : جعلت فداءك ، ردها الله عليك بإيثارك الوفاء وصبرك على الحق ، وانقيادك له ، فقال عبد الله : الحمد لله ، اللهم إنك تعلم أني صبرت عنها ، وآثرت الوفاء وسلمت لأمرك ، فرددتها علي بمنك ، ولك الحمد .

ثم قال : يا أخا العراق ! ما في الأرض أعظم منة منك ، وسيجازيك الله تعالى .

فأقام العراقي أياما ، وباع عبد الله غنما له بثلاثة عشر ألف دينار ، وقال لقهرمانه : احملها إليه ، وقل له : اعذر واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه .

فرحل العراقي محمودا وافر العرض والمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية