ونقد الشعر والتحقيق في معانيه من الصناعات التي أكثر المضطلعين لها قد عدموا وقد قلوا ، وقد كان بعض من يختلف إلي للأخذ عني ، والقراءة علي من أهل بعض الأطراف ،
[ ص: 388 ] قد قرأ علي شيئا مما صنفه في هذا المعنى ابن السكيت وابن قتيبة ، وما ألفه أبو الفرج قدامة الكاتب في نقد الشعر والكتاب المنسوب إلى أبي عثمان الأشنانداني علق عني صدرا صالحا من الزيادة في ذلك ، وشرح مستغلقه وإيضاح شكله ، وتفسير مجمله ، وتلخيص مهمله ، وتخطئة من أخطأ في تأويله ، ثم غاب عني فانقطعت عن التفرغ لتتبع ما بقي منه ، وقد وقع إلينا في هذا الباب فقر حسنة عن شيخي هذه الصناعة في زمانهما وهما النحويان أبو العباس أحمد بن يحيى ، ومحمد بن يزيد ، وكان يتكلم كثيرا في هذا النوع ، ويدعي فيه دعاوى يدفعه عن التقدم فيها ، ظهور تأخره عنها ، وتفاحش خطئه فيما يورده منها ، وقد أخرج قوم من هذا القبيل إعجابهم بأنفسهم ، وفساد تخيلهم ، إلى تخطئة الفحول من الشعراء الجاهليين ، ومن بعدهم من المخضرمين ، ومن بينهم من الإسلاميين الذين قولهم حجة على من بعدهم ، ومن تأخر عنهم ، فأحسن حالاته في هذا الباب أن يكون تبعا لهم ، فمن ذلك أن لغدة محمد بن يحيى الصولي الأصبهاني أقدم على تخطئة الطبقة الأولى ، كامرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى ومن يجري مجراهم ، فخطأهم فيما أصابوا فيه فتفاقم خطؤه ، وتعاظم خطله ، وقد كنت أمللت على بعض من حضرني ما يتبين فيه قصور معرفته ، وضعف بصيرته ، ثم رأيت أبا حنيفة أحمد بن داود الدينوري قد صمد لكتاب لغدة هذا فنقضه ، وأورد أشياء صحيحة تنبئ على إغفاله وضعف تأمله ، ومع هذا فلسنا ننكر أن يخطئ الرئيس في عمله ، والسابق في فهمه ، فلا يضع ذلك من قدره ، ولا يحطه عن مرتبته ، إذ فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى ربنا عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم .
وقد كان للمتوكل خادم يعرف " بعرق الموت " قد شدا أشياء من الأدب ، وحفظ صدرا من الشعر إلا أنه حل بقلبه من النقص نحو ما حل بجسمه ، فظن أنه قد اضطلع بأفانين الأدب ، واطلع على بلاغات العرب ، وأخذ في نحو ما كان لغدة أخذ فيه ، ونسب امرأ القيس إلى ذهابه في بعض شعره عن صحة ترتيب نظمه ، ووصل الشكل بشكله ، وإلحاق المثل بمثله ، وحمل الفرع على أصله ، وتوهم عليه هذا الباب من العيب ، ونعاه عليه ، وتكلف بإغفاله إصلاحه عند نفسه ، بخطأ أتى به من عنده ، وذكر هذا في بيتين من كلمة امرئ القيس التي أولها :
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
والبيتان :كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
كأني لم أركب جوادا ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
قال القاضي رحمه الله : ولو ثاب إلى هذا الخادم عازب لبه ، وفتح له القفل الضاغط عليه ، لتيقظ للوقوف على فساد توهمه ، ولتجلى له الخلل فيما آثره وقدمه ، وتعلم أن ترتيب امرئ القيس في هذين البيتين من أصح الترتيب وأحسنه ، وأوضح التأليف وأبينه ، وأنه متسق مستتب ، ومتفق متلئب ، ولاستفاد علما جما لما يتبينه من اطراده وتلاومه ، وائتلافه وتقاومه ، وأنه من أحسن الشعراء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكمة وأنا مبين هذا بيانا كافيا ، وملخصه تلخيصا مفيدا شافيا إن شاء الله وبه التوفيق .
إن الجواد يركب لأغراض شتى ، منها المحاربة وشن الغارة وإدراك العدو والهارب ، وفوت الثائر الطالب ، وطلب الأوتار وأخذ الثأر ، والتماس المعيشة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران ، والسبق والنضال ، والتدرب بالفروسية والقتال ، والركض والرياضة ، والإسراع والمواشكة في الحاجة ، في لواحق هذه الأمور وتوابعها ، أو ما يقاربها ويضارعها ، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة ، وكانوا إذا كان لهم ذحل يحرمون الخمر على أنفسهم حتى يثأروا فحينئذ يستحلونها ، قال امرؤ القيس :
حلت لي الخمر وكنت امرأ عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
نوليها الملامة إن ألمنا إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
لعمرك إن الراح إن كنت سائلا لمختلف عشيها وغداتها
لنا من صحاها خبث نفس وكأبة وذكر هموم ما تغب أذاتها
وعند العشي طيب نفس ولذة ومال كثير غدوة نشواتها
ولقد شربت من المدا مة بالكبير وبالصغير
فإذا انتشيت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل في قول معظم أهل التأويل ، وذكر بعضهم أنه سحل وألقي في اليم فشربوه ، والقول الأول أولى بالصواب لأنه لا يقال في ما شرب ولحس من الماء وغيره قد أشربته في قلبي ، وإنما يقال : أشرب فلان حب فلان في قلبه أو عداوته وبغضه ، وذكرت أبياتا غزلة لبعض المحدثين فأوردتها ها هنا لأني استحسنتها [ ص: 391 ] ها هنا وفي بيت منها نحو هذا المعنى ، وهي :
وقد كنت أرجو في مغيبك سلوة ولم أدر أن الطيف إن غبت طالبي
ووالله لا ينكى محب بمثلها وإن كان مكروها فراق الحبايب
وأشرب قلبي حبها ومشى به تمشي حميا الكأس في رأس شارب
يدب هواها في عظامي ولحمها كما دب في الملسوع سم العقارب