الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حديث خرافة يا أم عمرو  

وقال رضي الله عنه منهم في آخر بيت قاله:


قالت ودعني من أحاديث خرفة

وقال أبو العتاهية:


إذا أخلوا فأنت حديثي     وذلك كالحديث من الخرافة

وأرى أن قولهم للإنسان إذا أفند وتغير وأهتر وهجر: قد خرف، من هذا الباب وأنه [ ص: 51 ] قيل له ذلك: إما لأنه يتعلق بما تخيله له وساوسه فيظهر من لفظه ما ينبئ عن اختلاله ويعجب سامعوه منه بضحك من خروجه عن الاعتدال والصحة، ويأتي بألفاظ خارجة عن سنن الحكمة، وإما لأن سامعيه يطربون تعجبا بما يبديه ويستخرجون منه ما ينشطون ويرتاحون عنده، فكأنهم يجتنون ثمرة أو يخترفون فاكهة، ومن ها هنا قيل: فكهت من كذا أي عجبت، كما قال الشاعر:


ولقد فكهت من الذين تقاتلوا     يوم الخميس بلا سلاح ظاهر

ومن هذا الأصل قيل للمزاح: فكاهة، لما فيه من مسرة أهله والاستمتاع به، قال الشاعر:


حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهة     تفكرا آإياه يعنون أم قردا

وقال بعض أهل العلم: الغيبة فاكهة القراء.

وقال الفضيل بن عياض: لكل شيء ديباج، وديباج القراء ترك الغيبة.

ومن كلام العرب السائر: لا تمازح صبيا ولا تفاكهن أمة، يريد: ولا تمازحن، وخالف بين اللفظين مع اتفاق المعنى لأنه أحسن كما قال الشاعر:


وقدمت الأديم لراهشيه     وألفى قولها كذبا ومينا

والمين: الكذب، وقال آخر:


ألا حبذا هند وأرض بها هند     وهند التي من دونها النأي والبعد

ومن الخريف والاختراف على ما قدمنا ذكره: لفلان موضع كذا خرفة، أي مقام في الخريف، ويقال: زمان صائف وشات ورابع وقائظ، من الصيف والشتاء والربيع والقيظ، ولم يقولوا مثل هذا في الخريف، ويقال في النسب: خرفي وربعي، كما قال:


إن بني صبية صيفيون     أفلح من كان له ربعيون

ومنه الربع في الماشية، قال الشاعر:


ولها بالماطرون إذا     أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ارتبعت     سكنت من جلق بيعا
في قباب وسط دسكرة     حولها الزيتون قد ينعا

ويروى: خرفة على ما فسرنا، ويروى: خلفة من الاختلاف إلى المكان، وقول الله جل ذكره: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وقد اختلف أهل التأويل في تأويله،  فقال بعضهم: معناه أن ما فات في أحدهما قضي في الآخر، كالصلاة تفوت ليلا فتقضى نهارا وتفوت نهارا فتقضى ليلا، وقال آخرون: المعنى أنه جعلهما مختلفين في ألوانهما هذا أسود وهذا أبيض، وقال آخرون: إن كل واحد منهما [ ص: 52 ] يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وقيل: إنه لو لم يجعل كذلك لالتبس على الناس أمر دينهم في أوقات صومهم وصلاتهم، وقيل: إن الخلفة مصدر ولذلك وجدت، وهي خبر عن الليل والنهار، وقول زهير:


بها العين والآرام يمشين خلفة     وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

يعني تذهب منها طائفة وتحدث مكانها أخرى، وجائز أن يكون أراد الألوان والهيئات، وجائز أن يكون أراد أنها تذهب كذا وتجيء كذا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان من أفكه الناس، بمعنى أنه كان يمزح، وقد روي عنه عليه السلام، أنه قال: "إني لأمزح ولا أقول إلا حقا".

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه".  

حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن عيسى أبو بكر البزاز العسكري، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء، عن أبي لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.

وحدثنا محمد بن حمدان بن بغداد الصيدناني، قال: حدثني يوسف ابن الضحاك، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزاحا، وكان يقول: "إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه".

قال القاضي أبو الفرج: إنما ذكرنا ما ذكرناه من باب المزاح ها هنا بحسب ما اقتضاه ما تقدم من كلامنا لاتصاله ومناسبته إياه، ولذكر ما جاء في المزاح من الاستحسان والرخصة والنهي والكراهية موضع غير هذا.

حدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: أخبرني أبي عبد الله بن نصر بن بجير، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عباد بن موسى قال: أخبرني أبو بكر الهذلي، قال: قال لي الشعبي: ألا أحدثك حديثا تحفظه في مجلس واحد إن كنت حافظا كما حفظته أنا، لما أتي بي الحجاج وأنا مقيد وخرج إلي يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون لما بين دفتيك من العلم يا شعبي، وليس بيوم شفاعة، إذا دخلت على الأمير فبؤ له بالشرك والنفاق على نفسك فبالحري أن تنجو. فلما كنت قريبا من الإيوان خرج محمد بن الحجاج، فقال: هي يا شعبي، أكرمتك وأدنيتك وقربت مجلسك ثم خرجت علينا؟ قلت: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل وأجدب الجناب وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في خزية لم نكن بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، قال: صدق والله، ما بروا حين خرجوا ولا قووا حين فجروا، أطلقوا عنه. ثم قال: تعهدني وكن مني قريبا، فأرسل إلي يوما نصف النهار وليس عنده أحد، فقال: ما تقول في أم وجد وأخت؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: من؟ قلت: علي [ ص: 53 ] وابن مسعود وابن عباس وعثمان وزيد بن ثابت، قال: فما بال علي؟ قلت: جعلها ستة فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم الثلث سهمين، وأعطى الجد السدس سهما، قال: فما قال ابن مسعود؟ قلت: جعلها أيضا ستة، وكان لا يفضل أما على جد، فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم ثلث ما بقي، وأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث وأعطى الجد الثلثين، قال: فما قال عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثا فأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث، قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة فأعطى الأم الثلاثة وأعطى الأخت سهمين وأعطى الجد أربعة، جعلها منها بمنزلة الأخ، قال: يا غلام أمضها على ما قال أمير المؤمنين عثمان، قال: إذ دخل الحاجب فقال: إن بالباب رسلا، قال: أدخلهم، فدخلوا وسيوفهم على عواتقهم وعمائمهم في أوساطهم وكتبهم بأيمانهم، قال: ائذن، فدخل رجل من بني سليم يقال له سيابة بن عاصم، قال: من أين؟ قال: من الشام، قال: كيف أمير المؤمنين؟ كيف هو في بدنه.

كيف هو في حاشيته، كيف كيف؟ قال: خير، قال: كان وراءك من غيث؟ قال: نعم أصابتني فيما بيني وبين أمير المؤمنين ثلاث سحائب، قال: فانعت كيف لي كيف كان وقع المطر وكيف كان أثره وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوران فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكان الصغار لحمة الكبار، ووقع سبطا متداركا وهو السح الذي سمعت به، فواد سائل وواد نازح، وأرض مقبلة وأرض مدبرة، وأصابتني سحابة بسوان فأندت الدياث وأسالت الغرار وأدحضت التلاع وصدعت عن الكمأة أماكنها، وأصابتني سحابة بالقريتين، فأفاءت الأرض بعد الري، وامتلأت الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل مجر الضبع، قال: ائذن، فدخل رجل من بني أسد، قال: هل كان وراءك غيث؟ قال: لا، كثرت الأعصار واغبرت البلاد وأكل ما أشرف من الجنبة، واستيقنا أنه عام سنة، قال: بئس المخبر أنت، قال: أخبرتك بما كان، قال: ائذن، قال: فدخل رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: سمعت الرواد يدعون إلى ريادتها، وسمعت قائلا يقول: هل أظعنكم إلى محطة تطفأ فيها النيران وتشكى فيها النساء، وتتنافس فيها المعزى، قال: فوالله ما درى الحجاج ما أراد. قال: ويحك إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم، قال: أما تطفأ النيران فأخصب الناس فلا توقد نار يختبز بها، فكان السمن والزبد واللبن، وأما تشكي النساء فإن المرأة تظل تريق بهمها وتمحض لبنها فتبيت ولها أنين من عضديها كأنهما ليسا منها، وأما تنافس المعزى فإنها ترى من أنواع الشجر وألوان الثمار ونور النبات ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت كروشها، لها من الكظة جرة، وتبقى الجرة حتى يستنزل بها الدرة، قال: ائذن فدخل رجل من الحمراء من الموالي، وكان من أشد أهل [ ص: 54 ] زمانه، قال: من أين؟ قال: من خراسان، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكن لا أحسن أن أقول كما قال هؤلاء، قال: فما تحسن أنت؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان فلم أزل أطأ في أثرها حتى دخلت على الأمير، قال: إن كنت أقصرهم في المطر قصة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة

التالي السابق


الخدمات العلمية