الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حروف المقاربة  

وقوله في هذا الخبر: حتى كادت أن تميل.. الظاهر في كلام العرب أن يقولوا كادت تميل من غير أن يأتوا بأن، وكاد هذه من حروف المقاربة، فقال: كاد فلان يهلك وكاد يفعل كذا، قال الله عز وجل: تكاد السماوات يتفطرن منه وقال: فذبحوها وما كادوا يفعلون وقال: كادوا يكونون عليه لبدا في نظائر لهذا كثيرة، وقد تقول العرب: كاد أن يفعل، كما قال الشاعر:


كادت النفس أن تفيض عليه إذ ثوى حشو ريطة وبرود

وقال الراجز:

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

فكأنه أدخلها في باب عسى كما أدخل عسى عليها القائل من الشعراء:


عسى الكرب الذي أمسيت فيه     يكون وراءه فرج قريب

وقال آخر:


عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر     بمنهمر جون الرباب سكوب

وقال آخر:


عسى فرج يأتي به الله إنه     له كل يوم في خليقته أمر

ومثل هذا لعل، الباب فيها لعل القوم، قال الله: لعلكم تفلحون وقال: لعله يتذكر أو يخشى وقد تدخل على باب عسى لاشتراكها في باب الترجي والمقاربة والتوقع، وذلك قول الشاعر:


تتبع خبايا الأرض وادع مليكها     لعلك يوما أن تجاب وترزقا

وقال آخر:


ترفق أيها القمر المنير     لعلك أن ترى حجرا يسير

[ ص: 19 ] وقال آخر:


لعلي إن مالت بي الريح ميلة     على ابن أبي ذبان أن يتندما

وقد تأتي كاد بمعنى الإرادة لاشتراكهما في معنى المقاربة، كقولك: كاد الحائط أن يميل، وضربه حتى كاد أن يموت، أي أراد أن يميل وأن يموت، وقال الشاعر في هذا المعنى:


كادت وكدت وتلك خير إرادة     لو عاد من وصل الحبيبة ما مضى

وقد قيل في قول الله: إن الساعة آتية أكاد أخفيها أن معناه أكاد أقيمها، فحذف. ثم ابتدأ فقال: أخفيها وأن الكلام انتهى إلى أكاد، وأنه وقف تام، وأخفيها ابتدأ كأنه قال: أخفيها لتجزى، لتجزى إخبار بصلة الفعل الذي هو الإخفاء.

وقرأ بعض القراء: أكاد أخفيها بفتح الهمزة بمعنى أظهرها، يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته، وروى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "لعن المختفي والمختفية" يعني النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما ما ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، ورويت هذه القراءة عن سعيد بن جبير وغيره، ومن هذا المعنى قول الشاعر:


دأب شهرين ثم شهرا دبيكا     بأركين يخفيان غميرا

وقال آخر:


فإن تكتموا الداء لا نخفه     وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

وقال امرؤ القيس:


خفاهن من أنفاقهن كأنما     خفاهن ودق من عشي مجلب

وخفيت وأخفيت جميعا يرجعان إلى أصل واحد، خفيت أي أزلت الإخفاء وأخفيت أي فعلت الإخفاء، ونحن نبين ما في هذه الكلمة من القرآن والمعاني ووجوه التفسير وطريق الإعراب والتأويل في مواضعه من كتبنا في القرآن إن شاء الله.

وأما قول جريج للصبي: من أبوك؟ فقد يسأل السائل فيقول: كيف من قال من أبوك والعاهر ليس بأب  لمن أتت به البغي من مائه في حكم الشريعة؟ قيل: في هذا وجهان من التأويل أحدهما: أنه جائز أن يكون في شريعة هؤلاء القوم إلحاق ولد العاهر به إذا حملت أمه به منه.

والوجه الآخر: أن يكون جريج قال هذه على وجه التمثيل أو كنى به تنزيها لألفاظه على جهة التشبيه، فقد تضاف الأبوة لفظا من طريق التجاوز والاستعارة إلى من ليست له ولادة ولا نسب بينه وبين من ينسب إليه ولا قرابة، فيقال: فلان أبو الأرامل واليتامى إذا كفلهم وبرهم ووصلهم، وقام بتدبير أمورهم وكنفهم كفعل الآباء الوالدين لمن ولدوا من البنين.

وقد روي في بعض قراءات من رويت عنه القراءة من المتقدمين "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم" وعبر عن الأزواج بأنهن للمؤمنين أمهات [ ص: 20 ] توكيدا لحرمتهن ودلالة على تأبيد تحريم نكاحهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك استقصاء هذه الباب وما يناسبه ويتصل به طول.

وقوله: "ولما يتكلم" هذه لم الجازمة دخلت عليها ما وقيل: إنها تأتي لنفي حضور شيء منتظر متوقع وقيل: بل هي على طريق لم وإن ضمت إليها ما كما هي في: إن تقم أقم، وإما تقم أقم، ولهذا النحو موضع هو أولى به.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه "  فالذي أحفظ عن ابن أبي داود أنه قال في هذا الحديث هكذا أن يفتنه، وقال لأفتنه، وفي تصريف الفعل من الفتنة على تشعب معانيها واختلاف وجوهها لغتان: يقال: فتنه يفتنه على وزن فعل يفعل وهذه أعلى اللغتين وأفصحهما، وبها جاء كتاب الله تعالى في جميع القرآن، من ذلك: لا يفتننكم الشيطان وقوله على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وقوله: وظن داوود أنما فتناه بمعنى امتحناه، وأضاف هذه إليه جل ذكره، وقد قرئ أنما فتناه بالتخفيف على توجيه الفعل إلى الملكين، وقال تعالى: ولكنكم فتنتم أنفسكم وقال: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات

واللغة الثانية في هذه الكلمة هي أقلهما في كلام العرب وهي: أفتنه يفتنه على أفعل يفعل.

فإن كان ما روي لنا في هذا الحديث على اللفظ الذي وصفنا محفوظا عند رواته ومن أداه إلينا فإنه مما جمع فيه بين اللغتين.

التالي السابق


الخدمات العلمية