وقوله في هذا الخبر: حتى كادت أن تميل.. الظاهر في كلام العرب أن يقولوا كادت تميل من غير أن يأتوا بأن، وكاد هذه من حروف المقاربة، فقال: كاد فلان يهلك وكاد يفعل كذا، قال الله عز وجل: تكاد السماوات يتفطرن منه وقال: فذبحوها وما كادوا يفعلون وقال: كادوا يكونون عليه لبدا في نظائر لهذا كثيرة، وقد تقول العرب: كاد أن يفعل، كما قال الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه إذ ثوى حشو ريطة وبرود
وقال الراجز:قد كاد من طول البلى أن يمصحا
فكأنه أدخلها في باب عسى كما أدخل عسى عليها القائل من الشعراء:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر بمنهمر جون الرباب سكوب
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب وترزقا
ترفق أيها القمر المنير لعلك أن ترى حجرا يسير
لعلي إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبي ذبان أن يتندما
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من وصل الحبيبة ما مضى
وقرأ بعض القراء: أكاد أخفيها بفتح الهمزة بمعنى أظهرها، يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته، وروى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: يعني النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما ما ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، ورويت هذه القراءة عن "لعن المختفي والمختفية" وغيره، ومن هذا المعنى قول الشاعر: سعيد بن جبير
دأب شهرين ثم شهرا دبيكا بأركين يخفيان غميرا
فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
وأما جريج للصبي: من أبوك؟ فقد يسأل السائل فيقول: كيف من قال من أبوك والعاهر ليس بأب لمن أتت به البغي من مائه في حكم الشريعة؟ قيل: في هذا وجهان من التأويل أحدهما: أنه جائز أن يكون في شريعة هؤلاء القوم إلحاق ولد العاهر به إذا حملت أمه به منه. قول
والوجه الآخر: أن يكون جريج قال هذه على وجه التمثيل أو كنى به تنزيها لألفاظه على جهة التشبيه، فقد تضاف الأبوة لفظا من طريق التجاوز والاستعارة إلى من ليست له ولادة ولا نسب بينه وبين من ينسب إليه ولا قرابة، فيقال: فلان أبو الأرامل واليتامى إذا كفلهم وبرهم ووصلهم، وقام بتدبير أمورهم وكنفهم كفعل الآباء الوالدين لمن ولدوا من البنين.
وقد روي في بعض قراءات من رويت عنه القراءة من المتقدمين "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم" وعبر عن الأزواج بأنهن للمؤمنين أمهات [ ص: 20 ] توكيدا لحرمتهن ودلالة على تأبيد تحريم نكاحهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك استقصاء هذه الباب وما يناسبه ويتصل به طول.
وقوله: "ولما يتكلم" هذه لم الجازمة دخلت عليها ما وقيل: إنها تأتي لنفي حضور شيء منتظر متوقع وقيل: بل هي على طريق لم وإن ضمت إليها ما كما هي في: إن تقم أقم، وإما تقم أقم، ولهذا النحو موضع هو أولى به.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه " فالذي أحفظ عن ابن أبي داود أنه قال في هذا الحديث هكذا أن يفتنه، وقال لأفتنه، وفي تصريف الفعل من الفتنة على تشعب معانيها واختلاف وجوهها لغتان: يقال: فتنه يفتنه على وزن فعل يفعل وهذه أعلى اللغتين وأفصحهما، وبها جاء كتاب الله تعالى في جميع القرآن، من ذلك: لا يفتننكم الشيطان وقوله على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وقوله: وظن داوود أنما فتناه بمعنى امتحناه، وأضاف هذه إليه جل ذكره، وقد قرئ أنما فتناه بالتخفيف على توجيه الفعل إلى الملكين، وقال تعالى: ولكنكم فتنتم أنفسكم وقال: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات
واللغة الثانية في هذه الكلمة هي أقلهما في كلام العرب وهي: أفتنه يفتنه على أفعل يفعل.
فإن كان ما روي لنا في هذا الحديث على اللفظ الذي وصفنا محفوظا عند رواته ومن أداه إلينا فإنه مما جمع فيه بين اللغتين.