حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن قال : الأصمعي عمرو بن سعيد القرشي الأخطل : أيسرك أن لك شعرا بشعرك؟ قال : لا والله ما يسرني أن لي بمقولي مقولا من مقاول العرب ، غير أن رجلا من قومي قد قال أبياتا حسدته عليها ، وايم الله إنه لمغدف القناع ، ضيق الذراع ، قليل السماع ، قال : ومن هو؟ قال : القطامي ، قال : وما هذه الأبيات؟ قال : قوله :
يمشي رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تنكل من كل سامية العينين تحسبها
مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل حتى وردن ركيات الغوير وقد
كاد الملاء من الكتان يشتعل يمشين معترضات والحصى رمض
والريح ساكرة والظل معتدل والعيش لا عيش إلا ما تقر به
عيني ولا حال إلا سوف ينتقل إن تصبحي من أبي عثمان منجحة
فقد يهون على المستنجح العمل [ ص: 557 ] والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
قال القاضي : لعمري إن هذه الأبيات لمن رصين الشعر وبليغه ، وكلمة القطامي التي هذه الأبيات منها من أجود شعره ، وأولها :
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطول
وقد ذكر بعضهم أن أجود ما أتى من أشعار العرب على هذه العروض وهذا الروي هذه الكلمة وكلمة الأعشى التي أولها :
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
إن تغدفي دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستئم
كأنما أهل حجر ينظرون متى يرونني خارجا طير بباديد
طير رأت بازيا نضح الدماء به وأمه خرجت رهوا إلى عيد
نصبنا مثل رهوة ذات حد محافظة وكنا السابقينا
قيل هي الخيل ، وقوله : والريح ساكرة يعني ساكنة ، وإذا كانت ساكنة فهي فعل الأشياء المفقودة المعدومة ، يقال سكر الشيء إذا سكن ، وقيل للسكر الذي هو منسكر الأودية والأنهار سكر ، لأنه سكن إذا انسد وعدمت سورته ، ومنه السكر من الشراب وغيره ، قيل فيه ذلك لاحتباس ما كان منطلقا من السكران وصحة رأيه وصواب منطقه ، وقيل سكر الحر إذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته ، كما قال الراجز :
جاء الشتاء واجثأل القبر [ ص: 558 ] واستخفت الأفعى وكانت تظهر
وجعلت عين الحرور تسكر
وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين لقالوا إنما سكرت أبصارنا بمعنى سدت وصعب النظر بإسكانها عن الحركة التي تدرك المبصرات بها . وقرأ جمهور القرأة سكرت بالتشديد للتكرار إذ كانت الأبصار جماعة ، وقرأ بعضهم سكرت بالتخفيف لدلالة هذه القراءة على المعنى ، ومثله فتحت أبوابها وفتحت في نظائر لهذا كثيرة ، وهي مشروحة فيما تضمنته الكتب في علوم القرآن من كلامنا وكلام من تقدمنا ، وبالتخفيف قرأ ابن كثير في من وافقه من المكيين . وقوله :
إن تصبحي من أبي عثمان منجحة فقد يهون على المستنجح العمل
إذا ما نال ذو طلب نجاحا بأمر لم يجد ألم الطلاب