الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المجاهدة قال الله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: أخبرنا العباس بن الفضل الأسفاطي قال: أخبرنا ابن كاسب، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الجهاد؟ فقال: كلمة عدل عند سلطان جائر.

ودمعت عينا أبي سعيد.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة قال الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا واعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من ظن أنه يفتح له شيء من هذه الطريقة أو يكشف له عن شيء منها إلا بلزوم المجاهدة فهو في غلط.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول من لم يكن له في بدايته قومة لم يكن له في نهايته جلسة وسمعته أيضا يقول: قولهم الحركة بركة: حركات الظواهر توجب بركات السرائر.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: قال أبو يزيد البسطامي: كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي وخمس سنين كنت مرآة قلبي وسنة أنظر فيما بينهما [ ص: 217 ] فإذا في وسطي زنار ظاهر فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت عبد العزيز النجراني يقول سمعت الحسن القزاز يقول: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء أن لا تأكل إلا عند الفاقة ولا تنام إلا عند الغلبة ولا تتكلم إلا عند الضرورة.

سمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضرويه يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات أولها أن يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة.

والثاني: أن يغلق باب العز ويفتح باب الذل.

والثالث: أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد.

والرابع: أن يغلق باب النوم ويفتح باب السهر.

والخامس: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر.

والسادس: أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه [ ص: 218 ] وسمعته يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالكسب.

واعلم أن أصل المجاهدة وملاكها  فطم النفس عن المألوفات وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات وللنفس صفتان مانعتان لها من الخير انهماك في الشهوات وامتناع عن الطاعات فإذا جمحت عند ركوب الهوى وجب كبحها بلجام التقوى وإذا حرنت عند القيام بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى وإذا ثارت عند غضبها فمن الواجب مراعاة حالها فما من منازلة أحسن عاقبة من غضب يكسر سلطانه بخلق حسن وتخمد نيرانه برفق فإذا استحلت شراب الرعونة فضاقت إلا عن إظهار مناقبها والتزين لمن ينظر إليها ويلاحظها فمن الواجب كسر ذلك عليها وإحلالها بعقوبة الذل بما يذكرها من حقارة قدرها وخساسة أصلها وقذارة فعلها.

وجهد العوام في توفية الأعمال وقصد الخواص على تصفية الأحوال فإن مقاساة الجوع والسهر سهل يسير ومعالجة الأخلاق والتنقي عن سفسافها صعب شديد.

ومن غوامض آفات النفس ركونها إلى استحلاء المدح فإن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين على شفرة من أشفاره. وأمارة ذلك أنه إذا انقطع عنه ذلك الشرب آل حاله إلى الكسل والفشل.

كان بعض المشايخ يصلي في مسجده في الصف الأول سنين كثيرة فعاقه يوما عن الابتكار إلى المسجد عائق فصلى في الصف الأخير فلم ير مدة فسئل عن السبب فقال: كنت أقضي صلاة كذا وكذا سنة صليتها وعندي أني مخلص فيها لله فداخلني يوم تأخري عن المسجد من شهود الناس إياي في الصف الأخير نوع خجل فعلمت أن نشاطي طول عمري إنما كان على رؤيتهم فقضيت صلواتي. [ ص: 219 ]

ويحكى عن أبي محمد المرتعش أنه قال: حججت كذا كذا حجة على التجريد فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي وذلك أن والدتي سألتني يوما أن أستقي لها جرة ماء فثقل ذلك على نفسي فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحاجات كانت لحظ وشوب لنفسي إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.

وكانت امرأة قد طعنت في السن فسئلت عن حالتها فقالت كنت في حال الشباب أجد من نفسي نشاطا وأحوالا أظنها قوة الحال فلما كبرت زالت عني فعلمت أن ذلك كان قوة الشباب فتوهمتها أحوالا.

سمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: ما سمع هذه الحكاية أحد من الشيوخ إلا رق لهذه العجوز وقال إنها كانت منصفة.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ما أعز الله عبدا بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عبدا بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول: ما هالني شيء إلا ركبته.

وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول سمعت محمد بن الفضل يقول: الراحة هو الخلاص من أماني النفس.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت الآفة على الخلق من ثلاثة: سقم الطبيعة، وملازمة العادة، وفساد الصحبة، فسألته ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام، [ ص: 220 ] فقلت: ما ملازمة العادة؟ فقال: النظر والاستماع بالحرام والغيبة.

قلت: فما فساد الصحبة؟ قال كلما هاجت في النفس الشهوة تبعتها. وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سجنك نفسك فإذا خرجت منها وقعت في راحة أبدية. وسمعته يقول: سمعت محمدا الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الوراق يقول: كان أجل أحكامنا في مبادئ أمرنا في مسجد أبي عثمان الحيري الإيثار بما يفتح علينا، وأن لا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا بل نعتذر إليه ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته والإحسان إليه حتى يزول.

وقال أبو حفص: النفس ظلمة كلها، وسراجها سرها، ونور سراجها التوفيق، فمن لم يصحبه في سره توفيق من ربه كان ظلمة كله.

قال الأستاذ الإمام القشيري: معنى قوله: سراجها سرها يريد سر العبد الذي بينه وبين الله تعالى وهو محل إخلاصه وبه يعرف العبد أن الحادثات بالله لا بنفسه ولا من نفسه ليكون متبرئا من حوله وقوته على استدامة أوقاته ثم بالتوفيق يعتصم من شرور نفسه فإن من لم يدركه التوفيق لم ينفعه علمه بنفسه ولا بربه ولهذا قال الشيوخ: من لم يكن له سر فهو مصر. وقال أبو عثمان: لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئا وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.

وقال أبو حفص: ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبه فإن المعاصي بريد الكفر. وقال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملا فاحتسبت به. وقال السري، إياكم وجيران الأغنياء، وقراء الأسواق، وعلماء الأمراء.

وقال ذو النون المصري: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: [ ص: 221 ]

ضعف النية بعمل الآخرة. والثاني: صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم. والثالث: غلبهم طول الأمل مع قرب الأجل. والرابع: آثروا رضا المخلوقين على رضا الخالق. والخامس: اتبعوا أهواءهم، ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم. والسادس: جعلوا قليل زلات السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم.

[ ص: 222 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية