الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الورع

أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي قال: أخبرنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر الخراساني قال: حدثنا يحيى بن العيزار قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان، عن الأجلح ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود الدؤلي ، عن أبي ذر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".

قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه: أما الورع فإنه ترك الشبهات كذلك. قال إبراهيم بن أدهم الورع ترك كل شبهة  وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام.

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: كن ورعا تكن أعبد الناس سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: كان أهل الورع في أوقاتهم أربعة: حذيفة المرعشي ويوسف بن أسباط وإبراهيم بن أدهم وسليمان الخواص، فنظروا في الورع فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلى التقلل. وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت الشبلي يقول: الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله تعالى. [ ص: 234 ] وسمعته يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازي قال: حدثنا العباس بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا إسحاق بن خلف قال: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة لأنك تبذلهما في طلب الرياسة.

وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد كما أن القناعة طرف من الرضا. وقال أبو عثمان: ثواب الورع خفة الحساب.

وقال يحيى بن معاذ: الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول: سمعت عبد الله بن الجلاء يقول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته ورشائه ولم يتناول من طعام جلب من مصر.

وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت علي بن موسى التاهرتي يقول: وقع من عبد الله بن مروان فلس في بئر قذرة فاكترى عليه بثلاثة عشر دينارا حتى أخرجه فقيل له في ذلك فقال: كان عليه اسم الله تعالى وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الورع على وجهين  ورع في الظاهر وهو أن لا يتحرك إلا لله تعالى، وورع في الباطن وهو أن لا يدخل قلبك سواه تعالى.

وقال يحيى بن معاذ: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء وقيل: من دق في الدين نظره جل في القيامة خطره. وقال ابن الجلاء: من لم يصحبه التقى في فقره أكل الحرام النص. [ ص: 235 ]

وقال يونس بن عبيد: الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة. وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك تركته.

وقال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذم.

وقال بشر بن الحارث: أشد الأعمال ثلاثة: الجود في القلة والورع في الخلوة وكلمة الحق عند من يخاف منه ويرجى.

وقيل: جاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع الشعاع علينا أفيجوز لنا الغزل في شعاعها فقال أحمد: من أنت عافاك الله تعالى فقالت: أخت بشر الحافي فبكى أحمد وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق لا تغزلي في شعاعها.

وقال علي العطار مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا مشايخ قعود وصبيان يلعبون فقلت: أما تستحون من هؤلاء المشايخ؟ فقال صبي من بينهم: هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم.

وقيل: إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة فلم يصح له أن يأكل شيئا من تمر البصرة ولا من رطبها حتى مات ولم يذقه وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شيء ولا زاد فيكم.

وقيل لإبراهيم بن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال لو كان لي دلو لشربت.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة ضرب على رأس إصبعه عرق فيعلم أنه غير حلال. [ ص: 236 ]

وقيل: إن بشرا الحافي دعي إلى دعوة فوضع بين يديه طعام فجهد أن يمد يده إليه فلم تمتد ففعل ذلك ثلاث مرات فقال رجل يعرف ذلك منه: إن يده لا تمتد إلى طعام فيه شبهة ما كان أغنى صاحب الدعوة أن يدعو هذا الشيخ.

أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي قال: سمعت عبد الله بن علي بن يحيى التميمي قال: سمعت أحمد بن محمد بن سالم بالبصرة يقول: سئل سهل بن عبد الله عن الحلال الصافي فقال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه.

وقال سهل: الحلال الصافي الذي لا ينسى الله فيه.

ودخل الحسن البصري مكة فرأى غلاما من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس فوقف عليه الحسن وقال ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفة الدين؟ فقال: الطمع، فتعجب الحسن منه.

وقال الحسن مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.

وأوحى الله إلى موسى عليه الصلاة والسلام: لم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع والزهد.

وقال أبو هريرة: جلساء الله تعالى غدا أهل الورع والزهد.

وقال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل ولم يشبع.

وقيل: حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشامه وقال إنما ينتفع من هذا بريحه وأنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين.

وسئل أبو عثمان الحيري عن الورع فقال: كان أبو صالح حمدون عند صديق له وهو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فقيل له في ذلك فقال: إلى الآن كان الدهن له في المسرجة ومن الآن صار للورثة اطلبوا دهنا غيره. [ ص: 237 ]

وقال كهمس: أذنبت ذنبا أبكي عليه منذ أربعين سنة وذلك أنه زارني أخ لي فاشتريت بدانق سمكة مشوية فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي حتى غسل يده ولم أستحله.

قيل: وكان رجل يكتب رقعة وهو في بيت بكراء فأراد أن يترب الكتاب من جدار البيت فخطر بباله أن البيت بالكراء ثم إنه خطر بباله أنه لا خطر لهذا فترب الكتاب فسمع هاتفا يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقاه غدا من طول الحساب ورهن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سطلا له عند بقال بمكة حرمها الله تعالى فلما أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين وقال: خذ أيهما لك فقال أحمد: أشكل علي سطلي فهو لك والدراهم لك، فقال البقال: سطلك هذا وأنا أردت أن أجربك فقال: لا آخذه ومضى وترك السطل عنده وقال سيب ابن المبارك: دابة قيمتها كثيرة وصلى صلاة الظهر فرتعت الدابة في زرع قرية سلطانية فترك ابن المبارك الدابة ولم يركبها.

وقيل: رجع ابن المبارك من مرو إلى الشام في قلم استعاره فلم يرده على صاحبه.

واستأجر النخعي دابة فسقط سوطه من يده فنزل وربط الدابة ورجع فأخذ السوط فقيل له: لو حولت الدابة على الموضع الذي فيه سقط السوط فأخذته فقال: إنما استأجرتها لأمضي هكذا لا هكذا.

وقال أبو بكر الدقاق: تهت في تيه بني إسرائيل خمسة عشر يوما، فلما وافيت الطريق استقبلني جندي فسقاني شربة من ماء فعادت قسوتها على قلبي ثلاثين سنة. وقيل: خاطت رابعة شقا في قميصها في ضوء شعلة سلطان ففقدت قلبها زمانا حتى تذكرت فشقت قميصها فوجدت قلبها. [ ص: 238 ]

ورؤي سفيان الثوري في المنام وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة، فقيل له: بم نلت هذا؟ فقال: بالورع.

ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن فقال: أي شيء أشد عليكم؟ قالوا: الورع، فقال: ولا شيء أخف علي منه، فقالوا: فكيف؟ فقال: لم أرو من نهركم منذ أربعين سنة.

وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعا ولا يأكل سمينا ولا يشرب ماء باردا ستين سنة فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيرا إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها.

وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمه سنين وتعبد أربعين سنة وكان ابتداء أمره كيالا فلما مات رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: خيرا غير أني محبوس عن الجنة وقد أخرج علي من غبار القفيز أربعين قفيزا.

ومر عيسى بن مريم عليهما السلام بمقبرة فنادى رجلا منها فأحياه الله تعالى فقال: من أنت؟ فقال: كنت جمالا أنقل للناس فنقلت يوما لإنسان حطبا فكسرت منه خلالا تخللت به فأنا مطالب به منذ مت.

وتكلم أبو سعيد الخراز في الورع فمر به عباس بن المهتدي، فقال: يا أبا سعيد أما تستحي تجلس تحت سقف أبي الدوانيق وتشرب من بركة زبيدة وتتعامل بالدراهم المزيفة، وتتكلم في الورع؟

[ ص: 239 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية