الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الجوع وترك الشهوة  قال الله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ثم قال في آخر الآية: وبشر الصابرين فبشرهم بجميل الثواب على الصبر على مقاساة الجوع.

وقال تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال حدثنا عبد الله بن أيوب قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا أبو هاشم صاحب الزعفراني قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرصا خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام".

وفي بعض الروايات جاءت فاطمة رضي الله عنها بقرص شعير ولهذا كان الجوع من صفات القوم وهو أحد أركان المجاهدة فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع. وكثرت الحكايات عنهم في ذلك.

سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت ابن سالم يقول: أدب الجوع  أن لا ينقص من عادته إلا مثل أذن السنور. وقيل: كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوما، فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح.

وقال يحيى بن معاذ: لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره. [ ص: 271 ]

أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبيد قال: حدثنا علي بن الحسين الأرجاني قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الإصطخري بمكة حرسها الله تعالى قال: قال سهل بن عبد الله لما خلق الله تعالى الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل، وجعل في الجوع العلم والحكمة.

وقال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول دخل بعضهم على بعض الشيوخ فرآه يبكي فقال له: مالك تبكي؟ قال إني جائع قال ومثلك يبكي من الجوع فقال: اسكت أما علمت أن مراده من جوعي أن أبكي.

سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا الحسين بن منصور قال حدثنا داود بن معاذ قال: سمعت مخلدا يقول: كان الحجاج بن فرافصة معنا بالشام فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء ولا يشبع من شيء يأكله. وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الغزالي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء يقول دخل أبو تراب النخشبي من بادية البصرة مكة حرسها الله تعالى فسألناه عن أكله فقال: خرجت من البصرة وأكلت بنباج ثم بذات عرق ومن ذات عرق إليكم فقطع البادية بأكلتين. وسمعته يقول: حدثنا علي بن النحاس المصري قال: حدثنا هارون بن محمد الدقاق قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن الدرقش قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: تجوع صنف من الطير أربعين صباحا ثم طاروا في الهواء فرجعوا بعد أيام فكان يفوح منهم رائحة المسك. [ ص: 272 ] وكان سهل بن عبد الله إذا جاع قوي وإذا أكل شيئا ضعف.

وقال أبو عثمان المغربي الرباني لا يأكل في أربعين يوما والصمداني في ثمانين يوما. وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت علي بن إبراهيم القاضي بدمشق يقول: سمعت محمد بن علي بن خلف يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع.

سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت علي بن الحسين الأرجاني يقول: سمعت أبا محمد الإصطخري يقول: سمعت سهل بن عبيد الله وقيل له: الرجل يأكل في اليوم أكلة فقال: أكل الصديقين قال: فأكلتين قال: أكل المؤمنين قال: فثلاثة قال: قل لأهلك يبنون لك معلفا وسمعته يقول: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا أبو بكر السائح قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الجوع نور والشبع نار والشهوة تل الحطب يتولد منه الاحتراق ولا تطفأ ناره حتى يحرق صاحبه.

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: دخل يوما رجل من الصوفية على شيخ فقدم إليه طعاما ثم قال له: مذ كم يوم لم تأكل؟ فقال: مذ خمسة أيام فقال: جوعك جوع بخيل عليك ثياب وأنت تجوع ليس هذا جوع فقر.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: قال أبو سليمان الداراني: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.

وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد الرازي يقول: اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين ثم ظهر له ذلك من موضع حلال فلما مد يده إليه ليأكل أخذت شوكة من عظامه أصبعه فذهبت في ذلك يده فقال: يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى حلال فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟.

[ ص: 273 ] سمعت الأستاذ أبا بكر بن فورك يقول: شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال فما ظنك بقضية شهوة الحرام.

سمعت رستم الشيرازي الصوفي يقول: كان أبو عبد الله بن خفيف في دعوة فمد واحد من أصحابه يده إلى الطعام قبل الشيخ لما كان به من الفاقة فأراد بعض أصحاب الشيخ أن ينكر عليه لسوء أدبه حيث مد يده إلى الطعام قبل الشيخ فوضع شيئا بين يدي هذا الفقير فعلم الفقير أنه أنكر عليه لسوء أدبه فاعتقد أن لا يأكل خمسة عشر يوما عقوبة لنفسه وتأديبا لها وإظهارا لتوبته من سوء أدبه وكان قد أصابته فاقة قبل ذلك.

سمعت محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه النار غلبت شهوتهم حميتهم فلذلك افتضحوا.

وسمعته يقول: قيل لبعضهم ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي أن لا أشتهي وهذا أتم.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول أخبرنا أحمد بن منصور قال: أخبرنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو الحسين الحسن بن عمرو بن الجهم قال: سمعت أبا نصر التمار يقول: أتاني بشر ليلة فقلت الحمد لله الذي جاء بك جاءنا قطن من خراسان فغزلته البنت وباعته واشترت لنا لحما فتفطر عندنا [ ص: 274 ] فقال لو أكلت عند أحد أكلت عندكم ، ثم قال: إني لأشتهي الباذنجان منذ سنين ولم يتفق لي أكله قلت إن فيها الباذنجان من الحلال فقال: حتى يصفو لي حب الباذنجان.

سمعت عبد الله بن باكويه الصوفي يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: أمرني أبو عبد الله بن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر حبات زبيب لإفطاره فليلة أشفقت عليه فحملت إليه خمس عشرة حبة فنظر إلي وقال: من أمرك بهذا وأكل عشر حبات وترك الباقي.

سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الفرغاني يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنت نفسي من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنت خبزا وبيضا وأنا في سفر فعدلت إلى قرية فقام واحد وتعلق بي وقال: هذا كان مع اللصوص فضربوني سبعين درة ثم عرفني رجل منهم فقال: هذا أبو تراب النخشبي واعتذروا إلي فحملني رجل إلى منزله إكراما وشفقة علي وقدم إلي خبزا وبيضا فقلت لنفسي كلي بعد سبعين درة. [ ص: 275 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية