الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الصبر

قال الله تعالى: واصبر وما صبرك إلا بالله

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا أحمد بن علي الخراز قال: حدثنا أسيد بن زيد قال: حدثنا مسعود بن سعد، عن الزيات، عن أبي هريرة، عن عائشة رضي الله عنها رفعته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصبر عند الصدمة الأولى"

وأخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن مرداس قال: حدثنا يوسف بن عطية عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصبر عند الصدمة الأولى"

ثم الصبر على أقسام:  صبر على ما هو كسب للعبد وصبر على ما ليس بكسب ، فالصبر على المكتسب على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به وصبر على ما نهى عنه وأما الصبر على ما ليس بمكتسب للعبد فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله فيما يناله فيه مشقة.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله عز وجل أشد فسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبيس وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد [ ص: 323 ] وقال أبو القاسم الحكيم قوله تعالى: واصبر أمر بالعبادة وقوله تعالى: وما صبرك إلا بالله عبودية فمن ترقى من درجة لك إلى درجة بك فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بك أحيا وبك أموت".

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت عياشا يقول: سمعت أحمد يقول: سألت أبا سليمان عن الصبر فقال: والله ما نصبر على ما نحب فكيف على ما نكره. وقال ذو النون: الصبر: التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال ابن عطاء: الصبر: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى. وقال أبو عثمان: الصبار الذي عود نفسه الهجوم على المكاره. وقيل: الصبر المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية. وقال أبو عثمان أحسن الجزاء على عبادة الجزاء على الصبر ولا جزاء فوقه قال الله عز وجل: ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون . وقال عمرو بن عثمان: الصبر هو الثبات مع الله تعالى وتلقي بلائه بالرحب والدعة. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال يحيى بن معاذ صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا كيف يصبرون وأنشدوا:


الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد



وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. [ ص: 324 ] وقال ذو النون: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الصبر كاسمه.

وأنشدني الشيخ أبو عبد الرحمن، قال: أنشدني أبو بكر الرازي، قال: أنشدني ابن عطاء لنفسه:


سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة     وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري



وقال أبو عبد الله بن خفيف: الصبر على ثلاثة أقسام: متصبر وصابر وصبار.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو.

سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت علي بن عبد الله البصري، يقول: وقف رجل على الشبلي، فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله عز وجل، فقال: لا، فقال: الصبر لله تعالى.

قال: لا، قال: الصبر مع الله تعالى.

قال: لا، قال: فأي شيء؟ قال: الصبر عن الله عز وجل.

قال: فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه أن تتلف. وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا محمد الجريري، يقول: الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة، وأنشد بعضهم:


صبرت ولم أطلع هواك على صبري     وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر
مخافة أن يشكو ضميري صبابتي     إلى دمعتي سرا فتجري ولا أدري



سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: [ ص: 325 ]

فاز الصابرون بعز الدارين، لأنهم نالوا من الله تعالى معيته، قال الله تعالى: إن الله مع الصابرين . وقيل: في معنى قوله: اصبروا وصابروا ورابطوا ، الصبر دون المصابرة، والمصابرة دون المرابطة، وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله تعالى، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله تعالى، ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله تعالى، وقيل: اصبروا في الله تعالى وصابروا بالله تعالى ورابطوا مع الله تعالى.

وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي وإن من أخلاقي أنني أنا الصبور. وقيل: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا، وإن أحياك أحياك عزيزا، وقيل: الصبر لله تعالى عناء، والصبر بالله تعالى بقاء، والصبر في الله تعالى بلاء، والصبر مع الله تعالى وفاء، والصبر عن الله تعالى جفاء، وأنشدوا:


والصبر عنك فمذموم عواقبه     والصبر في سائر الأشياء محمود



وأنشدوا:


وكيف الصبر عمن حل مني     بمنزلة اليمين من الشمال
إذا لعب الرجال بكل شيء     رأيت الحب يلعب بالرجال



وقيل الصبر على الطلب عنوان الظفر والصبر في المحن عنوان الفرج.

سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: جرد واحد للسياط فلما رد إلى السجن دعا ببعض أصحابه فتفل على يده وألقى من فمه دقاق الفضة على يده فسئل فقال: كان في فمي درهمان وكان على حاشية الحلقة لي عين لم أرد أن أصيح لرؤيته إياي فكنت أعض على الدرهمين فتكسرا في فمي [ ص: 326 ] وقيل: حالك التي أنت فيها رباطك وما دون الله تعالى أعداؤك فأحسن المرابطة في رباط حالك.

وقيل: المصابرة هي الصبر على الصبر حتى يستغرق الصبر في الصبر فيعجز الصبر عن الصبر كما قيل:

صابر الصبر فاستغاث به الصبر     فصاح المحب بالصبر صبرا

وقيل حبس الشبلي وقتا في المارستان فدخل عليه جماعة فقال: من أنتم؟ فقالوا: أحباؤك جاءوا زائرين فأخذ يرميهم بالحجر وأخذوا يهربون فقال: يا كذابون لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي

وفي بعض الأخبار: بعيني ما لم يتحمل المتحملون من أجلي. وقال الله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وقال بعضهم: كنت بمكة حرسها الله تعالى فرأيت فقيرا طاف بالبيت وأخرج من جيبه رقعة ونظر فيها ومر فلما كان بالغد فعل مثل ذلك فترقبته أياما وهو يفعل مثله فيوما من الأيام طاف ونظر في الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا فأخرجت الرقعة من جيبه فإذا فيها: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وقيل: رؤي حدث يضرب وجه شيخ بنعله فقيل له: ألا تستحي تضرب حر وجه شيخ بمثل هذا؟! فقال: جرمه عظيم فقيل: وما ذاك؟ فقال: هذا الشيخ يدعي أنه يهواني ومنذ ثلاث ما رآني. وقال بعضهم: دخلت بلاد الهند فرأيت رجلا بفرد عين يسمى فلانا الصبور فسألت عن حاله فقيل هذا في عنفوان شبابه سافر صديق له فخرج في وداعه فدمعت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى فقال: لعينه التي لم تدمع لم لم تدمعي على فراق صاحبي؟ لأحرمنك النظر إلى الدنيا وغمض عينه فمنذ ستين سنة لم يفتح عينه. [ ص: 327 ]

وقيل: في قوله تعالى: فاصبر صبرا جميلا الصبر الجميل أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت وكان ابن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: سحابة ثم تنقشع وفي الخبر.

أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة

أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن طاهر الصوفي قال: حدثنا محمد بن علي التيجاني قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا سويد بن حاتم قال: حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: الصبر والسماحة

وسئل السري عن الصبر فجعل يتكلم فيه فدب على رجله عقرب وهي تضربه بإبرتها ضربات كثيرة وهو ساكن فقيل له: لم لم تنحها؟ قال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في الصبر ولم أصبر وفي بعض الأخبار: الفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة.

وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه أنزلت بعبدي بلائي فدعاني فماطلته بالإجابة فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك. وقال ابن عيينة في معنى قوله تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤساء سمعت الأستاذ أبا علي يقول: إن الصبر حده أن لا تعترض على التقدير فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله تعالى في قصة أيوب: إنا وجدناه صابرا نعم العبد مع ما أخبرنا عنه أنه قال: مسني الضر [ ص: 328 ] وسمعته يقول: استخرج الله منه هذه المقالة يعني قوله: مسني الضر لتكون متنفسا لضعفاء هذه الأمة.

وقال بعضهم: إنا وجدناه صابرا ولم يقل: صبورا لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر بل كان في بعض أحواله يستلذ البلاء ويستعذبه فلم يكن في حالة الاستلذاذ صابرا فلذلك لم يقل صبورا.

سمعت الأستاذ أبا علي يقول: حقيقة الصبر  الخروج من البلاء على حسب الدخول فيه مثل أيوب عليه السلام قال في آخر بلائه: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فحفظ أدب الخطاب حيث عرض بقوله: وأنت أرحم الراحمين ولم يصرح بقوله ارحمني.

واعلم أن الصبر على ضريين  صبر العابدين وصبر المحبين فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا.

وفي معناه أنشدوا:


تبين يوم البين أن اعتزامه     على الصبر من إحدى الظنون الكواذب



وفي هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا علي رحمه الله تعالى يقول أصبح يعقوب عليه السلام وقد وعد الصبر من نفسه فقال: فصبر جميل أي: فشأني صبر جميل ، ثم لم يمس حتى قال يا أسفى على يوسف .

[ ص: 329 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية