باب كرامات الأولياء
قال الأستاذ أبو القاسم : ظهور الكرامات على الأولياء جائز، والدليل على جوازه أنه أمر موهوم حدوثه في العقل، لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجب وصفه -سبحانه- بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدورا لله -سبحانه- فلا شيء يمنع جواز حصوله.
وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله، فمن لم يكن صادقا فظهور مثلها عليه لا يجوز، والذي يدل عليه أن تعريف القديم -سبحانه- إيانا حتى نفرق بين من كان صادقا في أحواله، وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لا يوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هو الكرامة التي أشرنا إليها.
ولا بد أن تكون هذه الكرامة فعلا ناقضا للعادة في أيام التكليف، ظاهرا على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله.
وتكلم الناس في الفرق بين الكرامات وبين المعجزات من أهل الحق، فكان الإمام أبو إسحاق الإسفراييني -رحمه الله- يقول: للمعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أن العقل المحكم لما كان دليلا للعالم في كونه عالما، لم يوجد إلا ممن يكون عالما.
وكان يقول: الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعاء، فأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا.
وأما الإمام -رحمه الله- فكان يقول: المعجزات دلالات الصدق، ثم إن ادعى صاحبها النبوة فالمعجزات تدل على صدقه في مقالته، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت المعجزة على صدقه في حاله، فتسمى كرامة، ولا تسمى معجزة، وإن كانت من جنس المعجزات للفرق. أبو بكر بن فورك
[ ص: 521 ] وكان -رحمه الله- يقول: من أن الأنبياء -عليهم السلام- مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعي ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعيها ولا يقطع بكرامته؛ لجواز أن يكون ذلك مكرا. الفرق بين المعجزات والكرامات
وقال: أوحد فنه في وقته القاضي أبو بكر الأشعري -رضي الله عنه-: إن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء، ولا تكون للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوى النبوة بها، والمعجزة لم تكن معجزة لعينها، وإنما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط لا تكون معجزة، وأحد تلك الشرائط دعوى النبوة، والولي لا يدعي النبوة، والذي يظهر عليه لا يكون معجزة.
وهذا القول الذي نعتمده، ونقول به، بل ندين به.
فشرائط المعجزات كلها أو أكثرها توجد في الكرامة إلا هذا الشرط الواحد، والكرامة فعل لا محالة محدث، لأن ما كان قديما لم يكن له اختصاص بأحد، وهو ناقض للعادة، وتحصل في زمان التكليف، وتظهر على عبد؛ تخصيصا له وتفضيلا، وقد تحصل باختياره ودعائه، وقد لا تحصل له، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات، ولم يؤمر الولي بدعاء الخلق إلى نفسه، ولو أظهر شيئا من ذلك على من يكون أهلا له لجاز.
واختلف أهل الحق في الولي هل يجوز أن يعلم أنه ولي أم لا؟
فكان الإمام -رحمه الله- يقول: لا يجوز ذلك لأنه يسلبه الخوف، ويوجب له الأمن، وكان الأستاذ أبو بكر بن فورك أبو علي الدقاق -رحمه الله- يقول بجوازه، وهو الذي نؤثره ونقول به.
وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء حتى يكون كل ولي يعلم أنه ولي واجبا، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم، كما يجوز أن لا يعلم بعضهم، فإذا علم بعضهم أنه ولي كانت معرفته تلك كرامة له انفرد بها.
[ ص: 522 ] وليس كل كرامة لولي يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء، بل لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا لم يقدح عدمها في كونه وليا، بخلاف الأنبياء، فإنه يجب أن تكون لهم معجزات؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق، فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه، ولا يعرف إلا بالمعجزة، وبعكس ذلك حال الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضا العلم بأنه ولي.
والعشرة من الصحابة صدقوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرهم به أنهم من أهل الجنة.
وقول من قال: لا يجوز ذلك لأنه يخرجهم من الخوف فلا بأس أن يخافوا تغيير العاقبة، والذي يجدونه في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق -سبحانه- يزيد ويربو على كثير من الخوف.
واعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا له ملاحظة، فربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أن ذلك فعل الله؛ فيستدلون بها على صحة ما هم عليه من العقائد.
وبالجملة فالقول بجواز ظهورها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة ما تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها على الأولياء في الجملة علما قويا انتفى عنه الشكوك، ومن توسط هذه الطائفة، وتواتر عليه حكاياتهم وأخبارهم لم تبق له شبهة في ذلك على الجملة.
ومن دلائل هذه الجملة نص القرآن في قصة سليمان -عليه السلام- حيث قال: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ولم يكن نبيا.
والأثر عن أمير المؤمنين -رضي الله عنه- صحيح أنه قال: "يا سارية الجبل" في حال خطبته يوم الجمعة وتبليغ صوت عمر إلى سارية في ذلك الوقت حتى تحرز من مكامن العدو من الجبل في تلك الساعة. عمر بن الخطاب