المثال الثالث : في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى ) في سبع آيات من القرآن حقيقة عند جميع فرق الأمة إلا
nindex.php?page=treesubj&link=29639الجهمية ومن وافقهم ، فإنهم قالوا : هو مجاز ، ثم اختلفوا في مجازه ، والمشهور عنهم ما حكاه
الأشعري عنهم وبدعهم وضللهم فيه بمعنى استولى ، أي ملك وقهر ، وقالت فرقة منهم : بل معنى قصد وأقبل على خلق العرش ، وقالت فرقة أخرى : بل هو مجمل في مجازاته يحتمل خمسة عشر وجها كلها لا يعلم أيها المراد إلا أنا نعلم انتفاء الحقيقة عنه بالعقل ، هذا الذي قالوه باطل من اثنين وأربعين وجها :
[ ص: 372 ] أحدها : أن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه نوعان : مطلق ومقيد ، فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=14ولما بلغ أشده واستوى ) وهذا معناه كمل وتم ، يقال : استوى النبات واستوى الطعام ، وأما المقيد فثلاثة أضراب : أحدها : مقيد بإلى كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29ثم استوى إلى السماء ) واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة ، وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه : في البقرة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ) والثاني في سورة فصلت : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف ، كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله .
والثاني : مقيد بعلى كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=44واستوت على الجودي ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29فاستوى على سوقه ) وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة ، الثالث : المقرون بواو ( مع ) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه ، نحو : استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها ، وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم ، ليس فيها معنى استولى البتة ، ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم ، وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق
المعتزلة والجهمية ، يوضحه :
الوجه الثاني : أن الذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلا ، فإنه مجاهرة بالكذب وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة استوى على استولى ، واستدلوا بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
وهذا البيت ليس من شعر العرب كما سيأتي بيانه .
الوجه الثالث : أن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ، ولم يجعلوه من لغة العرب ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي وقد سئل : هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى ؟ فقال : لا تعرف العرب ذلك ، وهذا هو من أكابر أئمة اللغة .
[ ص: 373 ] الوجه الرابع : ما قاله
الخطابي في كتابه ( شعار الدين ) قال : القول في أن الله مستو على عرشه ، ثم ذكر الأدلة في القرآن ثم قال : فدل ما تلوته من هذه الآي أن الله تعالى في السماء مستو على العرش ، وقد جرت عادة المسلمين خاصهم وعامهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء ، وذلكم لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه .
إلى أن قال : وزعم بعضهم أن الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل قطر وبقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر ، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه ، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ؟ هذا لفظه وهو من أئمة اللغة .
الوجه الخامس : أن هذا تفسير لكلام الله بالرأي المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ولا تابع ، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين ، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون أقوال السلف ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347301من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " .
الوجه السادس : أن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون خطأ في نفسه ، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف .
الوجه السابع : أن هذا اللفظ قد اطرد في القرآن والسنة حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء ، ولو كان معناه استولى لكان استعماله في أكثر مورده كذلك ، فإذا جاء موضع أو موضعان بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود ، وأما أن يأتي إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد ، فيدعي صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه ففي غاية الفساد ، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان ، هذا لو لم يكن في السياق ما يأتي حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه ، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك .
[ ص: 374 ] الوجه الثامن : أنه أتى بلفظة ( ثم ) التي حقيقتها الترتيب والمهلة ، ولو كان معناه معنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السماوات والأرض ، فإن العرش كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347302إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السماوات والأرض .
فإن قيل : نحمل " ثم " على معنى الواو ونجردها على معنى الترتيب .
قيل : هذا بخلاف الأصل والحقيقة ، فأخرجتم ثم عن حقيقتها والاستواء عن حقيقته ولفظ الرحمن عن حقيقته ، وركبتم مجازات بعضها فوق بعض .
فإن قيل : فقد يأتي " ثم " لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر ، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقا على ما قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار .
قيل : هذا لا يثبت أولا ولا يصح به نقل ، ولم يأت في كلام فصيح ، ولو قدر وروده فهو نادر لا يكون قياسا مطردا تترك الحقيقة لأجله .
فإن قيل : فقد ورد في القرآن ، وهو أفصح الكلام ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) والأمر بالسجود
لآدم كان قبل خلقنا وتصويرنا ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) وشهادته تعالى على أفعالهم سابقة على رجوعهم .
قيل : لا يدل ذلك على ما تقدم ما بعد ( ثم ) على ما قبلها ، أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) فهو خلق أصل البشر وأبيهم ، وجعله سبحانه خلقا لهم وتصويرا إذ هو أصلهم وهم فرعه ، وبهذا فسرها السلف ، قالوا خلقنا أباكم ، وخلق أبي البشر خلق لهم .
[ ص: 375 ] وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) فليس ترتيبا لإطلاعه على أفعالهم ، وإنما ترتيب لمجازاتهم عليها ، وذكر الشهادة التي هي علمه ولإطلاعه تقريرا للجزاء على طريقة القرآن في وضع القدرة والعلم موضع الجزاء لأنه يكون بهما كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=23إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ) وكقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=165أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=45فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) وهو كثير في القرآن ، وهو كما يقول السيد لعبده : اعمل ما شئت فإني أعلم ما تفعله ، وأنا قادر عليك ، وهذا أبلغ من ذكر العقاب وأعم فائدة .
فإن قيل : كيف تصنعون بقول الشاعر ؟
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
قلنا : أي شاعر هذا حتى يحتج بقوله ، وأين صحة الإسناد إليه لو كان ممن يحتج بشعره ؟ وأنتم لا تقبلون الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف تقبلون شعرا لا تعلمون قائله ولا تسندون إليه البتة .
الوجه التاسع : أن فاضلكم المتأخر لما تفطن لهذا ادعى الإجماع أن العرش مخلوق بعد خلق السماوات والأرض ، فيكون المعنى أنه خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش ، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلا ، وهو مناقض لما دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة ، فإنه تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء ، وهذه واو الحال ، أي خلقها في هذه الحال ، فدل على سبق العرش والماء للسماوات والأرض .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347302قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " ، وأصح القولين أن العرش مخلوق قبل القلم ، لما في السنن من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347303 " أول ما خلق الله القلم ، قال اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال اكتب القدر ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة وقد أخبر أنه قدر المقادير وعرشه على الماء ، وأخبر في هذا
[ ص: 376 ] الحديث أنه قدرها في أول أوقات خلق القلم ، فعلم أن العرش سابق على القلم ، والقلم سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، فادعى هذا الجهمي أن العرش مخلوق بعد خلق السماوات والأرض ، ولم يكفه هذا الكذب حتى ادعى الإجماع عليه ، ليتأتى له إخراج الاستواء عن حقيقته .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ إِلَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29639الْجَهْمِيَّةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَجَازٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَجَازِهِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ مَا حَكَاهُ
الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ وَبَدَّعَهُمْ وَضَلَّلَهُمْ فِيهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى ، أَيْ مَلَكَ وَقَهَرَ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ : بَلْ مَعْنَى قَصَدَ وَأَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ هُوَ مُجْمَلٌ فِي مَجَازَاتِهِ يَحْتَمِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا كُلُّهَا لَا يُعْلَمُ أَيُّهَا الْمُرَادُ إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ انْتِفَاءَ الْحَقِيقَةِ عَنْهُ بِالْعَقْلِ ، هَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ مِنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَجْهًا :
[ ص: 372 ] أَحَدُهَا : أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُغَتِهِمْ وَأَنْزَلَ بِهَا كَلَامَهُ نَوْعَانِ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ ، فَالْمُطَلَّقُ مَا لَمْ يُوصَلْ مَعْنَاهُ بِحَرْفٍ مِثْلُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=14وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ) وَهَذَا مَعْنَاهُ كَمُلَ وَتَمَّ ، يُقَالُ : اسْتَوَى النَّبَاتُ وَاسْتَوَى الطَّعَامُ ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَثَلَاثَةُ أَضْرَابٍ : أَحَدُهَا : مُقَيَّدٌ بِإِلَى كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) وَاسْتَوَى فُلَانٌ إِلَى السَّطْحِ وَإِلَى الْغُرْفَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمُعَدَّى بِإِلَى فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ : فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) وَالثَّانِي فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) وَهَذَا بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَنَذْكُرُ أَلْفَاظَهُمْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالثَّانِي : مُقَيَّدٌ بِعَلَى كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=44وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) وَهَذَا أَيْضًا مَعْنَاهُ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ وَالِاعْتِدَالُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، الثَّالِثُ : الْمُقِرُّونَ بِوَاوِ ( مَعَ ) الَّتِي تُعَدِّي الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ ، نَحْوَ : اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةَ بِمَعْنَى سَاوَاهَا ، وَهَذِهِ مَعَانِي الِاسْتِوَاءِ الْمَعْقُولَةِ فِي كَلَامِهِمْ ، لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى اسْتَوْلَى الْبَتَّةَ ، وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُمْ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَأَخِّرُو النُّحَاةِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ ، يُوَضِّحُهُ :
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهُ نَقْلًا ، فَإِنَّهُ مُجَاهَرَةٌ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا قَالُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَحَمْلًا مِنْهُمْ لِلَفْظَةِ اسْتَوَى عَلَى اسْتَوْلَى ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ :
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ
وَهَذَا الْبَيْتُ لَيْسَ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى ؟ فَقَالَ : لَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ مَنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ .
[ ص: 373 ] الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا قَالَهُ
الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ ( شِعَارِ الدِّينِ ) قَالَ : الْقَوْلُ فِي أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَدِلَّةَ فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ قَالَ : فَدَلَّ مَا تَلَوْتُهُ مِنْ هَذِهِ الْآيِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ بِأَنْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ عِنْدَ الِابْتِهَالِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَيَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ ، وَذَلِكُمْ لِاسْتِفَاضَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْمَدْعُوَّ فِي السَّمَاءِ سُبْحَانَهُ .
إِلَى أَنْ قَالَ : وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ ، وَنَزَعَ فِيهِ إِلَى بَيْتٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَقُلْهُ شَاعِرٌ مَعْرُوفٌ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِوَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَكَانَ الْكَلَامُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَكُلِّ قَطْرٍ وَبُقْعَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَتَحْتَ الْعَرْشِ ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِهِ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ ، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنَ الشَّيْءِ ، فَإِذَا وَقَعَ الظَّفَرُ بِهِ قِيلَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ ، فَأَيُّ مَنْعٍ كَانَ هُنَاكَ حَتَّى يُوصَفَ بِالِاسْتِيلَاءِ بَعْدَهُ ؟ هَذَا لَفْظُهُ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِكَلَامِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ صَاحِبٌ وَلَا تَابِعٌ ، وَلَا قَالَهُ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الَّذِينَ يَحْكُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347301مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ إِحْدَاثَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً فِي نَفْسِهِ ، أَوْ تَكُونَ أَقْوَالُ السَّلَفِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ خَطَأً ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْغَلَطِ وَالْخَطَأِ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدِ اطَّرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ وَرَدَ بِلَفْظِ الِاسْتِوَاءِ دُونَ الِاسْتِيلَاءِ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى لَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَكْثَرِ مَوْرِدِهِ كَذَلِكَ ، فَإِذَا جَاءَ مَوْضِعٌ أَوْ مَوْضِعَانِ بِلَفْظِ اسْتَوَى حُمِلَ عَلَى مَعْنَى اسْتَوْلَى لِأَنَّهُ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ ، وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ إِلَى لَفْظٍ قَدِ اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، فَيَدَّعِي صَرْفَهُ فِي الْجَمِيعِ إِلَى مَعْنًى لَمْ يَعْهَدِ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ ، وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَيَفْعَلْهُ مِنْ قَصْدِ الْبَيَانِ ، هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السِّيَاقِ مَا يَأْتِي حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ ، فَكَيْفَ وَفِي السِّيَاقِ مَا يَأْبَى ذَلِكَ .
[ ص: 374 ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظَةِ ( ثُمَّ ) الَّتِي حَقِيقَتُهَا التَّرْتِيبُ وَالْمُهْلَةُ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ ذَلِكَ إِلَى مَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَإِنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347302إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ وَلَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَرْشِ إِلَى أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْمِلُ " ثُمَّ " عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ وَنُجَرِّدُهَا عَلَى مَعْنَى التَّرْتِيبِ .
قِيلَ : هَذَا بِخِلَافِ الْأَصْلِ وَالْحَقِيقَةِ ، فَأَخْرَجْتُمْ ثُمَّ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَالِاسْتِوَاءَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَفْظَ الرَّحْمَنِ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، وَرَكَّبْتُمْ مَجَازَاتٍ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَأْتِي " ثُمَّ " لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبِرِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا سَابِقًا عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الْوُجُودِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي الْإِخْبَارِ .
قِيلَ : هَذَا لَا يَثْبُتْ أَوَّلًا وَلَا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ ، وَلَمْ يَأْتِ فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ ، وَلَوْ قُدِّرَ وُرُودُهُ فَهُوَ نَادِرٌ لَا يَكُونُ قِيَاسًا مُطَّرِدًا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ لِأَجْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ ، وَهُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) وَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) وَشَهَادَتُهُ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ .
قِيلَ : لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا بَعْدَ ( ثُمَّ ) عَلَى مَا قَبْلَهَا ، أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) فَهُوَ خَلْقُ أَصْلِ الْبَشَرِ وَأَبِيهِمْ ، وَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ خَلْقًا لَهُمْ وَتَصْوِيرًا إِذْ هُوَ أَصْلُهُمْ وَهُمْ فَرْعُهُ ، وَبِهَذَا فَسَّرَهَا السَّلَفُ ، قَالُوا خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ، وَخَلْقُ أَبِي الْبَشَرِ خَلْقٌ لَهُمْ .
[ ص: 375 ] وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) فَلَيْسَ تَرْتِيبًا لِإِطْلَاعِهِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَرْتِيبٌ لِمُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهَا ، وَذَكَرَ الشَّهَادَةَ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ وَلِإِطْلَاعِهِ تَقْرِيرًا لِلْجَزَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي وَضْعِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ مَوْضِعَ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=23إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=165أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=45فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ : اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا تَفْعَلُهُ ، وَأَنَا قَادِرٌ عَلَيْكَ ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِ الْعِقَابِ وَأَعَمُّ فَائِدَةً .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ ؟
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
قُلْنَا : أَيُّ شَاعِرٍ هَذَا حَتَّى يُحْتَجَّ بِقَوْلِهِ ، وَأَيْنَ صِحَّةُ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِشِعْرِهِ ؟ وَأَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ تَقْبَلُونَ شِعْرًا لَا تَعْلَمُونَ قَائِلَهُ وَلَا تُسْنِدُونَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ فَاضِلَكُمُ الْمُتَأَخِّرَ لَمَّا تَفَطَّنَ لِهَذَا ادَّعَى الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصْلًا ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَظْهَرُ مُنَاقَضَةً ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامِ وَعَرْشُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَاءِ ، وَهَذِهِ وَاوُ الْحَالِ ، أَيْ خَلَقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَدَلَّ عَلَى سَبْقِ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347302قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ الْقَلَمِ ، لِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347303 " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ، قَالَ اكْتُبْ ، قَالَ : مَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ اكْتُبِ الْقَدَرَ ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَأَخْبَرَ فِي هَذَا
[ ص: 376 ] الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدَّرَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِ الْقَلَمِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَرْشَ سَابِقٌ عَلَى الْقَلَمِ ، وَالْقَلَمَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَادَّعَى هَذَا الْجَهْمِيُّ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَكْفِهِ هَذَا الْكَذِبُ حَتَّى ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ ، لِيَتَأَتَّى لَهُ إِخْرَاجُ الِاسْتِوَاءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ .