فصل
في أن
nindex.php?page=treesubj&link=28713قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد ، وأن القصدين يتنافيان ، وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى .
لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم من كلامه وأن يبين
[ ص: 51 ] له ما في نفسه من المعاني وأن يدله على ذلك بأقرب الطرق كان ذلك موقوفا على أمرين : بيان المتكلم ، وتمكن السامع من الفهم ، فإذا لم يحصل البيان من المتكلم ، أو حصل ولم يتمكن السامع من الفهم ، لم يحصل مراد المتكلم ، فإذا بين المتكلم مراده بالألفاظ الدالة على مراده ولم يعلم السامع معاني تلك الألفاظ ، لم يحصل له البيان ، فلا بد من تمكن السامع من الفهم وحصول الإفهام من المتكلم ، وحينئذ فلو
nindex.php?page=treesubj&link=28713أراد الله ورسوله من كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لكان قد كلفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه ، بل بما يدل على نقيض مراده وأراد منه فهم النفي لما يدل على غاية الإثبات ، وفهم الشيء بما يدل على ضده ، وأراد منه أن
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28728يفهم أنه ليس فوق العرش إله يعبد ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ، بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إفهام أمته هذا المعنى بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347191لا تفضلوني على يونس بن متى " وأراد إفهام كونه خلق
آدم بقدرته ومشيئته بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) وأراد إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتهما إلى العدم بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347192يقبض الله السماوات بيده اليمنى والأرض باليد الأخرى ، ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك " وأراد إفهام معنى : من ربك ومن تعبد ، بقوله : " أين الله ؟ " وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهدا بربه ، وليس هناك رب وإله ، وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قوله وقولهم ، فأراد بالإشارة بأصبعه بيان كونه قد سمع قولهم ، وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامع قطعا أنها لم ترد بالخطاب ، ولا تجامع قصد البيان .
قال شيخ الإسلام : إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يجدون ما
[ ص: 52 ] يقولونه في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة ، بل يجدونها على خلاف الحق عندهم إما نصا وإما ظاهرا ، بل دلت عندهم على الكفر والضلال ، لزم من ذلك لوازم باطلة : منها أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل ، ومنها أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به ، بل رمز إليه رمزا وألغزه إلغازا لا يفهم منه إلا بعد الجهد الجهيد ، ومنها أن يكون قد كلف عباده ألا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها ، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه ، ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك ، ومنها أن يكون دائما متكلما في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب ، تارة بأنه استوى على عرشه ، وتارة بأنه فوق عباده ، وتارة بأنه العلي الأعلى ، وتارة بأن الملائكة تعرج إليه ، وتارة بأن الأعمال الصالحة ترفع إليه ، وتارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده ، وتارة بأنه رفيع الدرجات ، وتارة بأنه في السماء ، وتارة بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، وتارة بأنه فوق سماواته على عرشه ، وتارة بأن الكتاب نزل من عنده ، وتارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وتارة بأنه يرى بالأبصار عيانا يراه المؤمنون فوق رءوسهم ، إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ، ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد ما هو الصواب فيه لا نصا ولا ظاهرا ولا بينة .
ومنها أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان ، وذلك إما جهل ينافي العلم ، وإما كتمان ، ولقد أساء الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك ، ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولد بينهما جهل الحق وإضلال الخلق ، ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصا وظاهرا ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصا ولا ظاهرا ، وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات ، وطلبوا له مستكره التأويلات ، ومنهم أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ، ولم تكن الحقائق من شأنهم ، ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب ، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ، ولم يستفيدوا منها يقينا ولا
[ ص: 53 ] علما لما يجب لله ويمتنع عليه ، إذ ذاك إنما يستفاد من عقول الرجال ، فإن قيل : استفدنا منها الثواب على تلاوتها وانعقاد الصلاة بها ، قيل : هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها ، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة ، بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهتدى به علما وعملا ، ويبصر من العمى ويرشد من الغي ، ويعلم من الجهل ويشفي من العي ، ويهدي إلى صراط مستقيم ، وهذا القصد ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز والأحاجي فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبدا .
ومما يبين ذلك أن الله تعالى وصف كتابه بأوضح البيان وأحسن التفسير فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) فأين بيان المختلف فيه الهدى والرحمة في ألفاظ ظاهرها باطل ، والمراد منها
nindex.php?page=treesubj&link=28713تطلب أنواع التأويلات المستكرهة المستنكرة لها التي لا يفهم منها بل يفهم منها ضدها ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فأين بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله النفاة والمتأولون ؟ وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) وعند النفاة إنما حصلت الهداية بأبكار أفكارهم ونتائج آرائهم ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185فبأي حديث بعده يؤمنون ) وعند النفاة المخرجين لنصوص الوحي عن إفادة اليقين إنما حصل اليقين بالحديث الذي أسسه الفلاسفة
والجهمية والمعتزلة ونحوهم ، فبه اهتدوا ، وبه آمنوا ، وبه عرفوا الحق من الباطل ، وبه صحت عقولهم ومعارفهم ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) وأنت لا تجد الخلاف في شيء أكثر منه في آراء المتأولين التي يسمونها قواطع عقلية ، وهي عند التحقيق خيالات وهمية نبذوا بها القرآن والسنة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما
[ ص: 54 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=117إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .
فَصْلٌ
فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28713قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُخَاطَبِ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ يُنَافِي قَصْدَ الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ ، وَأَنَّ الْقَصْدَيْنِ يَتَنَافَيَانِ ، وَأَنَّ تَرْكَهُ بِدُونِ ذَلِكَ الْخِطَابِ خَيْرٌ لَهُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْهُدَى .
لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ دِلَالَةَ السَّامِعِ وَإِفْهَامَهُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنْ يُبَيِّنَ
[ ص: 51 ] لَهُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَعَانِي وَأَنْ يَدُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى أَمْرَيْنِ : بَيَانِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَتَمَكُّنِ السَّامِعِ مِنَ الْفَهْمِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْبَيَانُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ ، أَوْ حَصَلَ وَلَمْ يَتَمَكَّنِ السَّامِعُ مِنَ الْفَهْمِ ، لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ ، فَإِذَا بَيَّنَ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مُرَادِهِ وَلَمْ يَعْلَمِ السَّامِعُ مَعَانِيَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْبَيَانُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَكُّنِ السَّامِعِ مِنَ الْفَهْمِ وَحُصُولِ الْإِفْهَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=28713أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ كَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ لَكَانَ قَدْ كَلَّفَهُ أَنْ يَفْهَمَ مُرَادَهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، بَلْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مُرَادِهِ وَأَرَادَ مِنْهُ فَهْمَ النَّفْيِ لِمَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْإِثْبَاتِ ، وَفَهْمَ الشَّيْءِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضِدِّهِ ، وَأَرَادَ مِنْهُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28728يَفْهَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ ، وَأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ ، بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِفْهَامَ أُمَّتِهِ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347191لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَأَرَادَ إِفْهَامَ كَوْنِهِ خَلَقَ
آدَمَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) وَأَرَادَ إِفْهَامَ تَخْرِيبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِعَادَتِهِمَا إِلَى الْعَدَمِ بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347192يَقْبِضُ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ " وَأَرَادَ إِفْهَامَ مَعْنَى : مَنْ رَبُّكَ وَمَنْ تَعْبُدُ ، بِقَوْلِهِ : " أَيْنَ اللَّهُ ؟ " وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى السَّمَاءِ مُسْتَشْهِدًا بِرَبِّهِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رَبٌّ وَإِلَهٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِفْهَامَ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَهُ وَقَوْلَهُمْ ، فَأَرَادَ بِالْإِشَارَةِ بِأُصْبُعِهِ بَيَانَ كَوْنِهِ قَدْ سَمِعَ قَوْلَهُمْ ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَعْلَمُ السَّامِعُ قَطْعًا أَنَّهَا لَمْ تُرَدْ بِالْخِطَابِ ، وَلَا تُجَامِعُ قَصْدَ الْبَيَانِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ النُّفَاةُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا
[ ص: 52 ] يَقُولُونَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ، بَلْ يَجِدُونَهَا عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا ، بَلْ دَلَّتْ عِنْدَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يُضِلُّهُمْ ظَاهِرُهُ وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَيَانَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَلَمْ يُفْصِحْ بِهِ ، بَلْ رَمَزَ إِلَيْهِ رَمْزًا وَأَلْغَزَهُ إِلْغَازًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الْجُهْدِ الْجَهِيدِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَلَّفَ عِبَادَهُ أَلَّا يَفْهَمُوا مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ حَقَائِقَهَا وَظَوَاهِرَهَا ، وَكَلَّفَهُمْ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهَا مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَعَهَا قَرِينَةً تُفْهِمُ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ دَائِمًا مُتَكَلِّمًا فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا ظَاهِرُهُ خِلَافَ الْحَقِّ بِأَنْوَاعٍ مُتَنَوِّعَةٍ مِنَ الْخِطَابِ ، تَارَةً بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تُرْفَعُ إِلَيْهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نُزُولِهَا مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى أَسْفَلَ تَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ مِنْ عِنْدِهِ ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَنَوُّعِ الدَّلَالَاتِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُوَافِقُ مَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ وَلَا يَقُولُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ مَا هُوَ الصَّوَابُ فِيهِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بَيِّنَةً .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ وَخَيْرُ الْقُرُونِ قَدْ أَمْسَكُوا مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ فِي هَذَا النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهَمِّ أُصُولِ الْإِيمَانِ ، وَذَلِكَ إِمَّا جَهْلٌ يُنَافِي الْعِلْمَ ، وَإِمَّا كِتْمَانٌ ، وَلَقَدْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِخِيَارِ الْأُمَّةِ مَنْ نَسَبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا ازْدَوَجَ التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ وَالسُّكُوتُ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا جَهْلُ الْحَقِّ وَإِضْلَالُ الْخَلْقِ ، وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَقَدَ النُّفَاةُ التَّعْطِيلَ صَارُوا يَأْتُونَ مِنَ الْعِبَارَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ وَالنَّفْيِ نَصًّا وَظَاهِرًا وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّصُوصِ مَا هُوَ صَرِيحٌ أَوْ ظَاهِرٌ فِي الْإِثْبَاتِ حَرَّفُوهُ أَنْوَاعَ التَّحْرِيفَاتِ ، وَطَلَبُوا لَهُ مُسْتَكْرَهَ التَّأْوِيلَاتِ ، وَمِنْهُمْ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا لِذَلِكَ تَجْهِيلَ السَّلَفِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ مُقْبِلِينَ عَلَى الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالتَّسْبِيحِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَقَائِقُ مِنْ شَأْنِهِمْ ، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ النَّاسِ مِنْ إِنْزَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ وَأَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ ، فَإِنَّهُمْ مَا اسْتَفَادُوا بِنُزُولِهَا غَيْرَ التَّعَرُّضِ لِلضَّلَالِ ، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهَا يَقِينًا وَلَا
[ ص: 53 ] عِلْمًا لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ، إِذْ ذَاكَ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ ، فَإِنْ قِيلَ : اسْتَفَدْنَا مِنْهَا الثَّوَابَ عَلَى تِلَاوَتِهَا وَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِهَا ، قِيلَ : هَذَا تَابِعٌ لِلْمَقْصُودِ بِهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْهُدَى وَالْإِرْشَادُ وَالدِّلَالَةُ عَلَى إِثْبَاتِ حَقَائِقِهَا وَمَعَانِيهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ ، بَلْ أُنْزِلَ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْقَلَ وَيُهْتَدَى بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا ، وَيُبَصِّرَ مِنَ الْعَمَى وَيُرْشِدَ مِنَ الْغَيِّ ، وَيُعَلِّمَ مِنَ الْجَهْلِ وَيَشْفِيَ مِنَ الْعِيِّ ، وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَهَذَا الْقَصْدُ يُنَافِي قَصْدَ تَحْرِيفِهِ وَتَأْوِيلِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ الْمُسْتَكْرَهَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي فَلَا يَجْتَمِعُ قَصْدُ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَقَصْدُ مَا يُضَادُّهُ أَبَدًا .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَوْضَحِ الْبَيَانِ وَأَحْسَنِ التَّفْسِيرِ فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) فَأَيْنَ بَيَانُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ فِي أَلْفَاظٍ ظَاهِرُهَا بَاطِلٌ ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=28713تَطَلُّبُ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرِهَةِ الْمُسْتَنْكِرَةِ لَهَا الَّتِي لَا يُفْهَمُ مِنْهَا بَلْ يُفْهَمُ مِنْهَا ضِدُّهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) فَأَيْنَ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ وَالْمُتَأَوِّلُونَ ؟ وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) وَعِنْدَ النُّفَاةِ إِنَّمَا حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ بِأَبْكَارِ أَفْكَارِهِمْ وَنَتَائِجِ آرَائِهِمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) وَعِنْدَ النُّفَاةِ الْمُخْرِجِينَ لِنُصُوصِ الْوَحْيِ عَنْ إِفَادَةِ الْيَقِينِ إِنَّمَا حَصَلَ الْيَقِينُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَسَّسَهُ الْفَلَاسِفَةُ
وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ ، فَبِهِ اهْتَدَوْا ، وَبِهِ آمَنُوا ، وَبِهِ عَرَفُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَبِهِ صَحَّتْ عُقُولُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) وَأَنْتَ لَا تَجِدُ الْخِلَافَ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي آرَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً ، وَهِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ خَيَالَاتٌ وَهْمِيَّةٌ نَبَذُوا بِهَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، وَاتَّبَعُوا مَا
[ ص: 54 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=117إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .