وحينئذ فهذا وجه تاسع مستقل بكسر هذا الطاغوت ، وهو أن يتضمن القدح في العقل والشرع ; لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأنه أعلم منه ، وأنه لا نسبة له إليه ، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل ، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته ، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله ، فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، يوضحه : تقديم العقل على الشرع
الوجه العاشر : وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين والبشر بينه وبين عباده ، مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ويجوزه تارة ويضعف عن دركه تارة ، فلا سبيل له إلى الإحاطة به ، ولا بد له من التسليم له والانقياد لحكمه والإذعان والقبول وهناك يسقط ( لم ) ويبطل ( كيف ) وتزول ( هلا ) وتذهب ( لو ، وليت ) في الريح ، لأن اعتراض المعترض عليه مردود ، واقتراح المقترح ما ظن أنه أولى منه سفه ، وجملة الشريعة مشتملة على أنواع الحكمة علما وعملا ، حتى لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم تكن لها إليها نسبة ، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان فهي متكفلة بتعريف [ ص: 114 ] الخليقة ربها وفاطرهم المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه .
ويقابل ذلك تعريف حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه ، وحال السالكين تلك الطريق وإلى أين تنتهي بهم ، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل بالتسليم والإذعان ، وتستدير حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها ، فمن ناصر باللغة الشايعة ، وحام بالعقل الصريح ، وذاب عنه بالبرهان ، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ومتفقه في الحلال والحرام ، ومعتن بتفسير القرآن وحافظ المتون والسنة وأسانيدها ومفتش عن أحوال رواتها وناقد لصحيحها من سقيمها ومعلولها من سليمها .
فهذه الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيئاتها ومقادير الأجرام ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، واشتباك الاستفاضات وامتزاجها وقوامها ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وما الفاعل منها وما المنفعل ، ولا فيها حديث لمهندس ولا لباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها ، وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها ، وما الكرة وما الدائرة والخط المستقيم والمنحنى ، ولا فيها هذيان المنطقيين ونحوهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام ، والمقولات العشر ، والمختلطات والموجهات الصادر عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ، ولا يصدق بمعاد الأبدان ، ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان .
فجعل هؤلاء المعارضون بين العقل والنقل ، عقل هذا الرجل معيارا على كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله ، فما زكاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قبلوه ، وما لم يزكه تركوه .
ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء صحيحة لكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعوالها ، وكان الله تعالى ينبه عليها ويحض على التمسك بها .
فيا للعقول أين الدين من الفلسفة ؟ وأين كلام رب العالمين من آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين ؟ والوحي حاكم والعقل محكوم عليه .
[ ص: 115 ] فإن قالوا : إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء ، فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه ، وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح ، هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا بشهادته والملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الطريقة البرهانية للحكمة ، كما قال تعالى : ( ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) ، وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ، الواعدة لحسن المآب المبينة لحقائق الأنباء ، المعرفة بصفات رب الأرض والسماء ، وأن الطريقة التقليدية التخمينية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان وضع بعقله قانونا يصحح بزعمه علوم الخلائق وعقولهم ، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم ، بل ما وزن به علم إلا أفسده ، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان .