في بيان لغة واصطلاحا حقيقة التأويل
هو تفعيل من آل يئول إلى كذا إذا صار إليه ، فالتأويل التصيير ، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه ، قال : وتأول وهو مطاوع أولته ، وقال الجوهري : التأويل تفسير ما يئول إليه الشيء ، وقد أولته وتأولته بمعنى ، قال الأعشى :
على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال أبو عبيدة : تأول حبها أي : تفسيره ومرجعه ، أي إن حبها كان صغيرا في قلبه فلم يزل يشب حتى أصحب فصار قديما ، كهذا السقب الصغير لم يزل يشب حتى صار كبيرا مثل أمه وصار له ابن يصحبه ، والسقب ( بفتح السين ) ولد الناقة أو ساعة يولد أو خاص بالذكر .
ثم تسمى العاقبة تأويلا لأن الأمر يصير إليها ، قال الله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ، وتسمى حقيقة الشيء المخبر به تأويلا لأن الأمر ينتهي إليه ، ومنه قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) فمجيء تأويله مجيء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر [ ص: 21 ] والمعاد وتفاصيله والجنة والنار ، ويسمى تعبير الرؤيا تأويلها بالاعتبارين ، فإنه تفسير لها وهو عاقبتها وما تئول إليه ، وقال يوسف لأبيه : ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل . أي حقيقتها ومصيرها إلى هاهنا . انتهى .
وتسمى العلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلا لأنها بيان لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضه به ، ومنه قول الخضر لموسى بعد أن ذكر له الحكمة المقصودة بما فعله من تخريق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا عوض : سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فلما أخبره بالعلة الغائية التي انتهى إليها فعله قال : ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ، ، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج ، فإن الكلام نوعان : خبر وطلب ، فتأويل الخبر هو الحقيقة ، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به ، وتأويل ما أخبر الله به من صفاته العلى وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه ، وما هو موصوف به من الصفات العلى ، وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها ، قالت فالتأويل في كتاب الله تعالى المراد منه حقيقة المعنى الذي يئول اللفظ إليه عائشة رضي الله عنها : " " يتأول القرآن . فهذا التأويل هو فعل نفس المأمور به . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك
فهذا هو التأويل في كلام الله ورسوله .
وأما فمرادهم به معنى التفسير والبيان ، ومنه قول التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث وغيره : القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا ، ومنه قول الإمام ابن جرير أحمد في الرد على الجهمية " فيما تأولته من القرآن على غير تأويله " فأبطل تلك التأويلات التي ذكرها وهو تفسيرها المراد بها وهو تأويلها عنده ، فهذا التأويل يرجع إلى فهم المؤمن ويحصل في الذهن والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج .
وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره ، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه .
[ ص: 22 ] ولهذا يقولون : التأويل على خلاف الأصل . والتأويل يحتاج إلى دليل ، وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين ، فمن صنف في إبطال التأويل على رأي المتكلمين والشيخ القاضي أبو يعلى ، وقد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم القول به . موفق الدين ابن قدامة
ومن تأويل التأويل الباطل أهل الشام لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " ، فقالوا : نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا ، وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره فإن الذي قتله هو الذي باشر قتله لا من استنصر به ، ولهذا رد عليهم من هو أولى بالحق والحقيقة منهم فقالوا : أفيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا قوله صلى الله عليه وسلم حمزة والشهداء معه لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين ؟
ومن هذا قول لما روى حديث عروة بن الزبير عائشة : " عائشة أتمت في السفر ؟ قال : تأولت كما تأول عثمان ، وليس مراده أن فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " فقيل له : فما بال عائشة وعثمان تأولا آية القصر على خلاف ظاهرها وإنما مراده أنهما تأولا دليلا قام عندهما اقتضى جواز الإتمام فعملا به ، فكان عملهما به هو تأويله ، فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول قوله تعالى : ( فسبح بحمد ربك واستغفره ) بامتثاله بقوله " " ، فكأن سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي عائشة وعثمان تأولا [ ص: 23 ] قوله تعالى : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) فإن إتمامها من إقامتها ، وقيل : تأولت عائشة أنها أم المؤمنين وأن أمهم حيث كانت فكأنها مقيمة بينهم ، وأن عثمان كان إمام المسلمين فحيث كان فهو منزله ، أو أنه كان قد عزم على الاستيطان بمنى أو أنه كان قد تأهل بها ، ومن تأهل ببلد لم يثبت له حكم المسافر ، أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم فأحب أن يعلمهم فرض الصلاة وأنها أربع أو غير ذلك من التأويلات التي ظناها أدلة مقيدة لمطلق القصر أو مخصصة لعمومه وإن كانت كلها ضعيفة ، والصواب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إمام المسلمين وعائشة أم المؤمنين في حياته ومماته ، وقد قصرت معه ولم يكن عثمان ليقيم بمكة وقد بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رخص في الإقامة به للمهاجرين بعد قضاء نسكهم ثلاثا ، والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت به حكم الإقامة بمجرد التزوج ما لم يزمع الإقامة .
وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الصحيح وغيره هو الفاسد .