والوجه الخامس والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) وقال تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) فجعل مثل السوء المتضمن للنقائص وسلب الكمال [ ص: 165 ] للمشركين ، وأخبر أن ، وبهذا كان المثل الأعلى ، وهو أفعل تفضيل ، أي أعلى من غيره ، فكيف يكون أعلى عدم محض منفي صرف ، وأي مثل أدنى من هذا ، تعالى الله عن قول المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده المعطلين علوا كبيرا ، السوء العادم صفات الكمال ، ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته ، لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملا ، وهي : الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص والعبادة لله ، والإقبال عليه والإنابة إليه ، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ، والصبر والرضى والشكر ، وغير ذلك من الصفات التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة ، فلما سلبت تلك الصفات عنهم ، وهي صفات كمال كان لهم مثل السوء ، ، وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته وسائر ما وصف به نفسه ، فقد جعل لله تعالى مثل السوء ، ونزهه عن المثل الأعلى ، وأن مثل السوء هو أول ما يستلزمه ، وضده المثل الأعلى ، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره . فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى
ولما كان الرب هو الأعلى ، ووجهه الأعلى ، وكلامه الأعلى ، وسمعه الأعلى ، وسائر صفاته عليا ، كان له المثل الأعلى ، وهو أحق به من كل ما سواه ، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان ، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل ، أي : نظير ، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه ، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة .
ونظير هذا القهر المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان ، فلا يكون القهار إلا واحدا ، إذ لو كان معه كفء ، فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق ، وإن قهره لم يكن كفؤا وكان القهار واحدا ، فتأمل كيف كان قوله : ( ليس كمثله شيء ) ، وقوله : ( وله المثل الأعلى ) من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه وتعالى .
فإن قلت : فما ؟ قلت : قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين ، واستشكلوا أقوال السلف فيه ، فإن حقيقة المثل الأعلى وغيره قالوا : مثل السوء العذاب والنار ، ولله المثل الأعلى : شهادة ( أن لا إله إلا الله ) ، قال ابن عباس قتادة : هو الإخلاص والتوحيد ، وقال الواحدي : هذا قول المفسرين في هذه الآية ، ولا أدري لم قيل [ ص: 166 ] للعذاب مثل السوء والإخلاص المثل الأعلى ؟ قال : وقال قوم : المثل السوء : الصفة السوء من احتياجهم للولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار ، ولله المثل الأعلى : الصفة العليا وتنزهه وبراءته من الولد ، قال : وهذا قول صحيح ، والمثل كثيرا يرد بمعنى الصفة ، وقاله جماعة من المتقدمين .
وقال ابن كيسان : مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال ، والمثل الأعلى نحو قوله : ( الله نور السماوات والأرض ) ، وقال : ( ابن جرير وله المثل الأعلى ) هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل ، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا هو .
قلت : المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه ، فها هنا أربعة أمور : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر ، علمها العباد أو جهلوها ، وهذا قول من فسره بالصفة ، الثاني : وجودها في العلم والتصور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه ، بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته ، وهذا معنى قول من قال من المفسرين : أهل السماء يحبونه ويعظمونه ، وأهل الأرض يجلونه ويعظمونه ، وإن أشرك به من أشرك ، وعصاه من عصاه ، وجحد صفاته من جحدها ، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته ، قال تعالى : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأعظم من كل ما سواه ، الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل ، الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه ، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى .
فعبارة السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها ، وقد ضرب الله مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
وقال الله تعالى : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) [ ص: 167 ] فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام : للأصنام مثل بالسوء وله المثل الأعلى .
وقال تعالى : ( ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه ، والأول مثل السوء للصنم وعابديه .
وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم بمثل السوء بالكلب تارة ، وبالحمر تارة ، بالأنعام تارة ، وبأهل القبور تارة ، وبالعمي الصم ، وغير ذلك من أمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم ، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله ، وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ، ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء .
السادس والثلاثون : قوله تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) فهذا يبين أن ، كما قال في الآية الأخرى : ( الحكم بين الناس هو الله وحده بما أنزل من الكتاب المفصل وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ) ، وقال تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
فقوله : ( أفغير الله أبتغي حكما ) استفهام إنكار ، يقول : كيف أبتغي حكما غير الله [ ص: 168 ] وقد أنزل كتابا مفصلا ، فإن قوله : ( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) جملة في موضع الحال ، وقوله : ( مفصلا ) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال تعارض بعض نصوصه ، أو أن نصوصه خليت أو أفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب ، أو أن لها معاني لا تفهم ولا يعلم المراد منها ، أو أن لها تأويلات باطلة ، خلاف ما دلت عليه ظواهرها ، فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا ، بل مجمل مؤول ، ولا يعلم المراد منه ، والمراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ، ثم قال : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن ، فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من مشكاة واحدة ، لا سيما في باب التوحيد والأسماء ، فإن التوراة من ذلك ليس هو المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم ، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن وصدقه ، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما في التوراة من الصفات ; ولا عابهم به ; ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا ، كما فعل كثير من النفاة ، وقال : اليهود أئمة التشبيه والتجسيم ، ولا ذنب لهم في ذلك ; فإنهم قرءوا ما في التوراة ، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به المعطلة بل شاركوهم فيه ، والذي استشهد الله على نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم ونسبوهم إلى التشبيه والتجسيم ، وهذا ضد ما عليه الرسول وأصحابه ، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئا من هذا الذي تسميه المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه وأقرهم ولم ينكره ، كما صدقهم في خبر الخبر الذي ثبت من حديث وضحك تعجبا وتصديقا له ; وفي غير ذلك . ابن مسعود
ثم قال ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ) فما أخبر به فهو صدق وما أمر به فهو عدل .
وهذا يبين أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق ، علينا أن نصدق به لا نعارضه ولا نعرض عنه ، ومن عارضه بعقله لم يصدق به ، ولو صدقه تصديقا مجملا ، ولم يصدقه تصديقا مفصلا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنا ، ولو أقر بلفظه مع جحد [ ص: 169 ] معناه أو صرفه إلى معان أخر غير ما أريد به لم يكن مصدقا ، بل هو إلى التكذيب أقرب .