ولهذا لما عارض بلال بن عبد الله قوله صلى الله عليه وسلم : " عبد الله فسبه سبا ما سبه مثله ، وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن . لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " برأيه وعقله وقال : والله لنمنعهن ، أقبل عليه أبوه
[ ص: 172 ] ولما حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " عمران بن حصين وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : إن منه كذا ومنه كذا عمران بن حصين ؟ وظن أن المعارض زنديق ، فقيل له : يا إن الحياء خير كله " فعارضه معارض بقوله : إن منه وقارا ومنه ضعفا ، فاشتد غضب أبا نجيد ، إنه لا بأس به .
ولما بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء . . " الحديث ، قال عبادة بن الصامت معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلا ، غضب عبادة وقال : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : ما أرى بهذا بأسا ؟ قال : لا أساكنك بأرض أنت بها أبدا ، حدث ومعاوية لم يعارض النص بالرأي ، وكان أتقى لله من ذلك ، وإنما خص عمومه وقيد مطلقه بهذه الصورة وما يشابهها ، ورأى أن التفاضل في مقابلة أثر الصنعة فلم يدخل في الحديث ، وهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرأي ، ولو قال له : نعم ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين ولا يجوز مخالفته ، ولكن هذه الصورة لا تدخل في لفظه ، فإنه إنما قال : " " ، وهذه الزيادة ليست في مقابلة الفضة ، وإنما هي في مقابلة الصنعة ، ولا تذهب الصنعة هدرا ، لما أنكر عليه عبادة ، فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أريد بها ، كما أنه هو الفضة بالفضة مثلا بمثل وزنا بوزن وغيرهما من الصحابة لما ومعاذ بن جبل ولم يورثوا الكافر من المسلم لم يعارضوا قوله صلى الله عليه وسلم : " ورثوا المسلم من الكافر " بعقولهم وآرائهم ، بل قيدوا مطلق هذا اللفظ وخصصوا عمومه وظنوا أن المراد به الحربي ، كما فعل ذلك بعض الفقهاء في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم " حيث حملوه على الحربي [ ص: 173 ] دون الذمي والمعاهد ، والصحابة في هذا التقييد والتخصيص أعذر من هؤلاء من وجوه كثيرة ، ليس هذا موضعها . لا يقتل مسلم بكافر
وقد كان ، وكان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ، ولا يقرون على ذلك يحتج في متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها ، فيقولون له : إن ابن عباس أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا ، فلما أكثروا عليه قال : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء " ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس ، كيف لو رأى قوما يعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأضرابهم ؟ . وأبي الهذيل العلاف
ولقد عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقيل له : إن أباك ينهى عنها ، فقال : إن أبي لم يرد ما تقولون ، فلما أكثروا عليه قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم أمر عمر ؟ . سئل
ولما حدث حميد بن ثابت أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل ) قال : " وضع أصبعه على طرف خنصره فساخ الجبل " أنكر عليه بعض الحاضرين وقال : أتحدث بها ؟ فضرب حميد في صدره وقال : أحدثك عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : أتحدث بهذا ؟ فكانت نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس ، ولا تثبت قدم أحد على الإيمان إلا على ذلك . عن
الثامن والثلاثون : أن ، ولا هي محصورة في نوع معين ، فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولهم عقليات يختصمون إليها ويختصون بها ، المعقولات ليس لها ضابط فللفرس عقليات ، وللهند عقليات ، وللمجوس عقليات ، وللصائبة عقليات ، وكل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات ، بل فيها من الاختلاف ما هو معروف عند المعتنين به ، ونحن نعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها ونحاكمكم إلى [ ص: 174 ] المعقولات التي في هذه الأمة ، فإنه ما من مدة من المدد إلا وقد ابتدعت فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها ، ونحن نسوق إليك الأمر من أوله إلى أن يصل إليك بعون الله فنقول : لما أظلمت الأرض وبعد عهدها بنور الوحي فكانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : " " فكان إني خلقت عبادي حنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب إلا بقايا متمسكين بالوحي ، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان والصلبان والنيران والكواكب والشمس والقمر والحيرة والشك ، أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به ، فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرا ، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ، ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه ، فكانوا كما قال الله تعالى : ( أهل العقل كلهم في مقته الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ، وقال تعالى : ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ، وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) وقال : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ; وليس يلتبس بظلم الآراء ، وأوصوا من بعدهم ألا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم ، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة ، فبعدوا عن النور [ ص: 175 ] الذي كان عليه أوائل الأمة ، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية ، بل ، ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض الوحي والنصوص ، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها ، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر ، ورموهم بالعظائم ، وتبرءوا منهم وحذروا من سبيلهم أشد التحذير ، وكانوا لا يرون السلام عليهم ومجالستهم . كانوا للنصوص معظمين وبها مستدلين ، ولها على الآراء والعقول مقدمين