أما قوله في اليد : إنها يد نعمة ، كما تقول العرب : لك عندي يد ، فقد قال الله تعالى : ( بيدك الخير ) وقال : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ) وقال : ( تبارك الذي بيده الملك ) وقال : ( يد الله فوق أيديهم ) وقال : ( بل يداه مبسوطتان ) قال : ، فبدل قولا غير الذي قيل له فأراد الجهمي أن يبدل كلام الله ، إذ أخبر أن له يدا بها ملكوت كل شيء فبدل مكان اليد نعمة ، وقال : العرب تسمي اليد نعمة ، قلنا له : العرب تسمي النعمة يدا ، وتسمي يد الإنسان يدا ، فإذا أرادت يد الذات جعلت على قولها علما ودليلا يعقل به السامع أنها أرادت الذات ، وإذا أرادت يد النعمة جعلت على قولها دليلا يعقل السامع كلامها أنها تريد باليد النعمة ، ولا تجعل كلامها مشتبها على سامعه ، ومن ذلك قول الشاعر : فزعم الجهمي أن يد الله نعمته
ناولت زيدا بيدي عطية
فدل بهذا القول على يد الذات بالمناولة والياء حين قال : بيدي ، فجعل الياء استقصاء للعدد حين لم يكن له غير يدين ، وقال الآخر حين أراد يد النعمة :
اشكر يدين لنا عليك وأنعما شكرا يكون مكافئا للمنعم
[ ص: 402 ] فأما ما ذكره سبحانه من يديه ويده فقد ذكرت ذلك في صدر هذا الكلام ، وأما النعمة التي هي غير اليد فمن ذلك قوله : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) وقوله : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وقوله : ( وأتممت عليكم نعمتي ) وقوله : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ) فسمى الله تعالى النعم باسم النعمة ولم يسمها بغير أسمائها ، ومثل هذا في القرآن كثير وذكر تعالى أيدي المخلوقين فسماها بالأيدي ، فقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) وقال تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وقال : ( والملائكة باسطو أيديهم ) فهذه أيد لا نعمة وذكر نعمته على زيد ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فسماها نعمة ولم يسمها يدا ، ثم أخبر سبحانه عن يديه أنهما يدان لا ثلاثة ، وجعل الياء استقصاء للعدد حين قال : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) فدل على أنهما يدا الذات ، لا يتعارف العرب في لغاتها ولا أشعارها إلا أن هاتين اليدين يدا الذات لاستقصاء العدد بالياء ، وأما نعم الله فهي أكثر وأعظم من أن تحصر أو تعد ، قال الله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) .
واعلم رحمك الله أن قائل هذه المقالة جاهل بلغة القرآن وبلغة العرب ومعانيها وكلامها ، وذلك أن الله إذا افتتح الخبر عن نفسه بلفظ الجمع ختم الكلام بلفظ الجمع ، وإذا افتتح الكلام بلفظ الواحد ختم الكلام بلفظ الواحد ، وإنما يعني الخبر عن نفسه وإن كان اللفظ جمعا ، فأما ما كان من لفظ الواحد فهو قوله تعالى : ( وقضى ربك ) فافتتح الخبر عن نفسه بلفظ الواحد ، وبمثله ختم الكلام فقال : ( ألا تعبدوا إلا إياه ) وقال : ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) وقال : ( ربكم أعلم بكم ) أما ما افتتحه بلفظ الجمع فهو قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) فافتتحه بلفظ الجمع ثم ختمه بمثل ما افتتحه به فقال : [ ص: 403 ] ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ) وإنما عنى بذلك نفسه لأنها كلمة ملوكية تقولها العرب .
وروي أن لقي أعرابيا ومعه ناقة فقال : لمن هذه ؟ فقال الأعرابي : لنا ، فقال له ابن عباس : كم أنتم ؟ فقال : أنا واحد ، فقال ابن عباس : هكذا قول الله تعالى : نحن وخلقنا وقضينا ، إنما يعني نفسه ، والمبهم يرد إلى المحكم فكل كلمة في القرآن من لفظ جمع قبلها محكم من التوحيد ترد إليه فمن ذلك قوله : ( ابن عباس وقضينا إلى بني إسرائيل ) يرد إلى قوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) وقوله : ( وخلقناكم أزواجا ) يرد إلى قوله : ( إنما أمره ) وقوله : ( لما جاء أمر ربك ) كذلك قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) يرد إلى قوله : ( لما خلقت بيدي ) فلما افتتح الكلام بلفظ الجمع فقال : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم ) قال : ( أيدينا ) ولما افتتح بقوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ختم الكلام على ما افتتحه به ، فهذا بيان لقوم يفقهون .
وقد كان أكثر قسم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقسم أن يقول : محمد بيده وهذا لا يليق به النعمة وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفس . انتهى كلامه . يصدق كتاب الله
ولو ذكرنا كلام السلف في ذلك لطال جدا ، والأشعري في كتبه يصرح بإثبات الصفات الخبرية في كتبه كلها ، ومعلوم أن أحدا لا ينكر لفظها وإنما أنكروا حقائقها ومعانيها الظاهرة ، وكلام الأشعري موجود في الإبانة والموجز والمقالات وموجود في تصانيف أئمة أصحابه وأجلهم على الإطلاق القاضي أبو بكر بن أبي الطيب ، وقد ذكر ذلك في كتاب الإبانة والتمهيد وغيرهما وذكره فيما جمعه من كلام ابن فورك ابن كلاب وكلام الأشعري ، وذكره البيهقي في الأسماء والصفات والاعتقاد ، وذكره القشيري في كتاب الشكاية له ، وذكره في كتابه تبيين كذب المفتري ، حتى ابن عساكر ابن الخطيب حكوا ذلك عن والسيف الآمدي الأشعري ، وأنه أثبت اليدين صفة لله ، ولكن غلطوا حيث ظنوا أن له قولين في ذلك ، وهذه كتبه كلها ليس فيها إلا الإثبات ، فهو الذي يحكيه عن أهل السنة وينصره ، ويحكي خلافه عن الجهمية والمعتزلة .
نعم كان قبل ذلك يقول بقول المعتزلة ثم رجع عنه وصرح بخلافهم واستمر على ذلك حتى مات .
[ ص: 404 ] قال الأشعري في كتابه الذي ذكر أنه آخر كتبه وعليه اعتمد في ذكره مناقبه واعتقاده ، قال : فإن سألنا سائل فقال : ما تقولون إن لله يدين ؟ قيل : نعم ، نقول ذلك لقوله تعالى : ( ابن عساكر يد الله فوق أيديهم ) ولقوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله آدم بيده وغرس جنة طوبى بيده " ، وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وفي الحديث : " " وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقولوا لقائل : عملت كذا وكذا بيدي ، هو بمعنى النعمة ، إذا كان الله خاطب العرب بلغاتها ، وما تجده مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها ، وإذ لا يجوز في خطابها أن يقول القائل : فعلت بيدي ويعني النعمة ، بطل أن يكون معنى بيدي النعمة وساق الكلام في إنكار هذا التأويل وأطاله جدا وقرر أن لفظ اليدين على حقيقته وظاهره ، وبين أن اللغة التي أنزل بها القرآن لا تحتمل ما تأولت كلتا يديه يمين الجهمية .
وقال لسان أصحابه وأجلهم ابن الطيب في كتاب التمهيد وهو أشهر كتبه : فإن قال القائل : فما قيل له : قوله تعالى : ( الحجة في أن لله وجها ويدين ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وقوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) فأثبت لنفسه وجها ويدين ، فإن قالوا : بم أنكرتم أن يكون المعنى خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته لأن اليدين في اللغة تكون بمعنى النعمة وبمعنى القدرة كما يقال : لفلان عندي يد بيضاء ، وهذا شيء في يد فلان ، وتحت يده ، ويقال رجل أيد إذا كان قادرا ، كما قال تعالى : ( خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) يريد عملنا بقدرتنا ، وقال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
وكذلك لا يجوز أن يكون خلق الله آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وغيره لا تحصى ; ولأن القائل لا يجور أن يقول : رفعت الشيء أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يريد نعمته ، وكذلك لا يجور أن يقال لي : عند فلان يدان يعني [ ص: 405 ] نعمتين ، وإنما يقال : لي عنده يداه بيضاوان ; ولأن فعلته بيدي لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات .
ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس وأن يقول : وأي فضللآدم علي يقتضي له وأنا أيضا بيدك خلقتني ، وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه دليل على فساد ما قالوه .
فإن قال القائل : فما أنكرتم أن تكون يده ووجهه جارحة إذ كنتم لا تعقلون يدا ووجها هما صفة غير الجارحة ؟ قلنا : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم ذلك على الله ، وكما لا يجب إذا كان قائما بذاته أن يكون جوهرا لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك ، الجواب لهم أن قالوا : فيجب أن يكون علمه وكلامه وحياته وسائر صفات ذاته أعراضا وأجساما وأجناسا أو حوادث أو أغيارا له تعالى ومحتاجة إلى قلب ، ولو تتبعنا القول عن أهل السنة لزادت على المائتين .