الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه العشرون : أنه سبحانه أخبر عن الجهات التي تستقبلها الأمم منكرة مطلقة غير مضافة إليه ، وأن المستقبل لها هو موليها وجهه لا أن الله شرعها له وأمره بها ، ثم أمر أهل قبلته المبادرة والمسابقة إلى الخير الذي ادخره لهم وخصهم به ومن جملته هذه القبلة التي خصهم دون سائر الأمم فقال تعالى : ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) إلى قوله : ( قدير ) .

فتأمل هذا السياق في ذكر الجهات المختلفة التي توليها الأمم وجوههم ، ونزل عليه قوله : ( ولله المشرق والمغرب ) إلى قوله : ( واسع عليم ) وانظر هل يلائم [ ص: 416 ] السياق السياق والمعنى المعنى ويطابقه ، أم هما سياقان دل كل منهما على معنى غير المعنى الآخر ، فالألفاظ غير الألفاظ ، والمعنى غير المعنى .

الوجه الحادي والعشرون : أنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله لكان قد أضاف إلى نفسه القبل كلها ، ومعلوم أن هذه إضافة تخصيص وتشريف إلى إلهيته ومحبته لا إضافة عامة إلى ربوبيته ومشيئته ، وما هذا شأنها لا يكون المضاف الخاص إلا كبيت الله وناقة الله وروح الله ، فإن البيوت والنوق والأرواح كلها لله ، ولكن المضاف إليه بعضها ، فقبلة الله منها هي قبلة بيته لا كل قبلة ، كما أن بيته هو البيت المخصوص لا كل بيت .

الوجه الثاني والعشرون : أن يقال : حمل الوجه في الآية على الجهة والقبلة ، إما أن يكون هو ظاهر الآية أو يكون خلاف ظاهرها ، ويكون المراد بالوجه وجه الله حقيقة ; لأن الوجه إنما يراد به الجهة والقبلة إذا جاء مطلقا غير مضاف إلى الله تعالى كما في حديث الاستسقاء ، فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود ، أم يكون ظاهر الآية الأمرين كليهما ولا تنافي بينهما ، فأينما ولى العبد وجهه في صلاة تولية مأمور بها فهو قبلة الله ، وثم وجه الله ، فهو مستقبل قبلته ووجهه ، أو تكون الآية مجملة محتملة للأمرين ، فإن كان الأول هو ظاهرها لم يكن حملها عليه مجازا ، وكان ذلك حقيقتها ، ومن يقول هذا يقول وجه الله في هذه الآية قبلته وجهته التي أمر باستقبالها بخلاف وجهه في قوله : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وتلك النصوص التي ذكرناها وغاية ذلك أن يكون الوجه لفظا مشتركا قد استعمل في هذا تارة وفي هذا تارة ، فمن أين يلزم من ذلك أن يكون وجه الرب ذو الجلال والإكرام مجازا وأن لا يكون له وجه حقيقة ؟ لولا التلبيس والترويج بالباطل .

وإن كان الثاني فالأمر ظاهر ، وإن كان الثالث فلا تنافي بين الأمرين ، فأينما ولى المصلي فهي قبلة الله وهو مستقبل وجه ربه ; لأنه واسع والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه تعالى والله مقبل على كل مصل إلى وجهه من الجهات المأمور بها بوجهه ، كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله : ( إذا قام [ ص: 417 ] أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ، فإن الله قبل وجهه ) وفي لفظ : " فإن ربه بينه وبين القبلة " .

وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله ، فإنه قد دل العقل والفطرة وجميع كتب الله السماوية على أن الله تعالى عال على خلقه فوق جميع المخلوقات ، وهو مستو على عرشه ، وعرشه فوق السماوات كلها ، فهو سبحانه محيط بالعوالم كلها ، فأينما ولى العبد فإن الله مستقبله ، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه ، والمركز يستقبل وجه المحيط ، وإذا كان عالي المخلوقات المحيط يستقبل سافلها المحاط به بوجهه من جميع الجهات والجوانب ، فكيف بشأن من هو بشكل شيء محيط وهو محيط ولا يحاط به ، كيف يمتنع أن يستقبل العبد وجهه تعالى حيث كان وأين كان ، وقوله : ( فثم وجه الله ) إشارة إلى مكان موجود ، والله تعالى فوق الأمكنة كلها ليس في جوفها ، وإن كانت الآية مجملة محتملة لأمرين لم يصح دعوى المجاز فيها ولا في وجه الله حيث ورد ، فبطلت دعواهم أن وجه الله على المجاز لا على الحقيقة ، يوضحه :

الوجه الثالث والعشرون : أنه لو أريد بالوجه في الآية الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال : " فأينما تولوا فهو وجه الله " ; لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة فهي التي تولى نفسها ، وإنما يقال : ثم كذا إذا كان هناك أمران ، كقوله تعالى : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ) فالنعيم والملك ثم لا أنه نفس الظرف لنفسه ، فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه ، فتأمله .

ألا ترى أنك إذا أشرت إلى جهة الشرق والغرب لا يصح أن تقول : ثم جهة الشرق وثم جهة الغرب ، بل تقول : هذه جهة الشرق وهذه جهة الغرب ، ولو قلت : هناك جهة الشرق والغرب لكان ذكر اللفظ لغوا ، وذلك لأن ثم إشارة إلى المكان البعيد فلا يشار بها إلى القريب ، والجهة والوجهة مما يحاذيك إلى آخرها ، فجهة الشرق والغرب وجهة القبلة مما يتصل لك إلى حيث ينتهي ، فكيف يقال فيها ثم إشارة إلى البعيد بخلاف [ ص: 418 ] الإشارة إلى وجه الرب تبارك وتعالى ، فإنه يشار إلى حيث يشار إلى ذاته ، لهذا قال غير واحد من السلف : فثم وجه الله تحقيقا ; لأن المراد وجهه الذي هو من صفات ذاته والإشارة إليه بأنه ثم كالإشارة إليه بأنه فوق سماواته ، وعلى العرش ، وفوق العالم .

الوجه الرابع العشرون : أن تفسير القرآن بعضه ببعض أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل ، ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم ، والله تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم القبلة والوجهة ، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه ، فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين .

الوجه الخامس والعشرون : أن الآية لو احتملت كل واحد من الأمرين لكان الأولى بها إرادة وجهه الكريم ذي الجلال والإكرام ; لأن المصلي مقصوده التوجه إلى ربه ، فكان من المناسب أن يذكر أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ، ليس في اختلاف الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك ، فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) فأخبر أن الجميع ملكه وقد خلقه ، وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم محيط بالمخلوقات عال عليها بكل اعتبار ، فمن استقبل وجهة من الشرق إلى الغرب أو الشمال أو الجنوب أو بين ذلك فإنه متوجه إلى ربه حقيقة ، والله تعالى قبل وجهه إلى أي جهة صلى ، وهو مع ذلك فوق سماواته عال على عرشه ، ولا يتوهم تنافي هذين الأمرين بل اجتماعهما هو الواقع ، ولهذا عامة أهل الإثبات جعل الآية من آيات الصفات وذكرها مع الوجه ، مع قولهم : إن الله تعالى فوق سماواته على عرشه .

الوجه السادس والعشرون : أنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية ، مشتقة منه كقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه " ، وقوله : " فالله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه " ، وقوله : " إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم قبل وجهه " ، وقوله : " إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت " رواه ابن حبان [ ص: 419 ] في صحيحه والترمذي ، وقال : " إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء " .

وقال جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه ، فإذا التفت أعرض الله عنه وقال : يا ابن آدم أنا خير ممن تلتفت إليه ، فإذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه ، فإذا التفت أعرض الله عنه " وقال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا صلى أحدكم فلا يتنخمن تجاه وجه الرحمن " ، وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن ، فإذا التفت قال له : ابن آدم إلى من تلتفت ؟ إلى خير لك مني تلتفت ؟ " .

التالي السابق


الخدمات العلمية