والذي عندي أن الرحمة لما كانت من صفات الله تعالى ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا كانت قريبة من المحسنين ، فهو قريب سبحانه منهم قطعا ، وقد بينا أنه سبحانه قريب من أهل الإحسان ، ومن أهل سؤاله بإجابته .
ويوضح ذلك أن ، فيقرب ربه منه إليه ، بإحسانه تقرب تعالى إليه ، فإنه الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه ، فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير ، وهو مع ذلك فوق سماواته على عرشه ، كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق عرشه ، فإن من تقرب منه شبرا يتقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ، فلا يكون قط إلا عاليا ولا يكون فوقه شيء ألبتة ، كما قال أعلم الخلق " علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته " وهو سبحانه قريب في علوه عال في قربه ، كما في الحديث الصحيح عن وأنت الظاهر فليس فوقك شيء قال : أبي موسى الأشعري فأخبر صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ، وأخبر أنه فوق سماواته على عرشه مطلع على خلقه يرى أعمالهم ويعلم ما في بطونهم ، وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر . كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه سميع [ ص: 483 ] قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "
والذي يسهل عليك فهم هذا : معرفة وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد ، عظمة الرب وإحاطته بخلقه ، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته . أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش . وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن
وبهذا يزول الإشكال عن الحديث الذي رواه الترمذي من حديث الحسن عن قال : " أبي هريرة محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله ثم قرأ ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) " قال بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان ، هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ، ثم قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف ، ثم قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها خمسمائة سنة ، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض ، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك العرش ، بينه وبين السماء السابعة بعد ما بين السماءين ، ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنها الأرض ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد قالوا : لم يسمع وعلي بن زيد الحسن من ، وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث وقالوا : إنما يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش كما وصف في كتابه ، هذا آخر كلامه . أبي هريرة
[ ص: 484 ] وقد اختلف الناس في هذا الحديث في سنده ومعناه ، فطائفة قبلته لأن إسناده ثابت إلى الحسن .
قال الترمذي : حدثنا ابن حميد وغير واحد ، قالوا حدثنا ، حدثنا يونس بن محمد عن شيبان بن عبد الرحمن قتادة حدثنا الحسن عن ، فهؤلاء كلهم أئمة ، وقد صرح أبي هريرة قتادة بتحديث الحسن له ، وقد صح عن الحسن في غير هذا الحديث أنه قال : حدثنا ولا ريب أنه عاصره ، وقد قال أبو هريرة حدثنا مسلم بن إبراهيم ربيعة بن كلثوم قال سمعت الحسن قال : سمعت ، وطائفة أخرى ردت الحديث وأعلته بأنه منقطع ، قالوا أبا هريرة والحسن لم ير فضلا أن يسمع منه ، قال أبا هريرة : قلت عثمان بن سعيد الدارمي : ليحيى بن معين الحسن لقي ؟ قال لا ولم يلق ابن عباس . أبا هريرة
وقال حدثنا ابن أبي حاتم صالح بن أحمد ، حدثنا قال سمعت علي بن المديني قال حدثني سلم ابن قتيبة شعبة ، قال قلت : ليونس بن عبيد الحسن سمع من ؟ قال : ما رآه قط ، حدثنا أبي هريرة صالح بن أحمد قال : قال أبي : قال بعضهم عن الحسن يحدثنا ، قال أبو هريرة إنكارا عليه إنه لم يسمع من ابن أبي حاتم . أبي هريرة
حدثنا محمد بن أحمد البر قال : قال علي : لم يسمع الحسن من ، ثم ذكره عن أبي هريرة أيوب : لم يسمع وعلي بن زيد الحسن من ، وقال أبي هريرة سمع من عبد الرحمن بن مهدي ولم يسمع من ابن عمر ولم يره . أبي هريرة
وقال سمعت أبي يقول : لم يسمع من ابن أبي حاتم ، وسمعت أبي هريرة أبا زرعة يقول : لم يسمع الحسن من ولم يره ، فقيل له : فمن قال حدثنا أبي هريرة ؟ قال يخطئ ، وسمعت أبي يقول : وذكر حدثنا أبو هريرة وأوصاني خليلي ، قال لم يعمل أبو هريرة ربيعة بن كلثوم شيئا ، لم يسمع الحسن من شيئا ، قلت لأبي إن أبي هريرة سالم الخياط روى عن الحسن قال سمعت . قال هذا مما بين ضعف أبا هريرة سالم .
وسمعت أبا الحجاج المزي يقول : قوله حدثنا ، أي حدث أهل بلدنا ، كما في حديث الدجال قول الشاب الذي يقتله له : أنت الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه ، قال أبو هريرة أبو حاتم : والحسن لم يسمع من ، وقوله خطبنا ابن عباس ، يعني خطب ابن عباس أهل البصرة ، قالوا وللحديث علة أخرى وهي أن عبد الرزاق في تفسيره رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، فاختلفوا هو وشيبان فيه ، هل حدث به عن الحسن .
[ ص: 485 ] والذين قبلوا اختلفوا في معناه ، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه ، أي انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت ، فلا يعزب عنه شيء .
وقالت طائفة أخرى : بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن ، فإنه سبحانه محيط بالعالم كله ، وأن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى : ( والله من ورائهم محيط ) فإذا كان محيطا بالعالم فهو فوقه بالذات عال عليه من كل وجه وبكل معنى ، فالإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة ، فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه ، والحديث لم يقل فيه إنه يهبط على جميع ذاته ، فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل ، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض ألبتة ، لا الحلولية ولا الاتحادية ولا الفرعونية ولا القائلون بأنه في كل مكان بذاته ، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن . الله تعالى ليس تحت العالم
فقوله " " إذا هبط في قبضته المحيطة بالعالم هبط عليه والعالم في قبضته وهو فوق عرشه ، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة قبضتها يده من جميع جوانبها ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده وهبطت عليه ، ولم يلزم أن تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها ، ولله المثل الأعلى وإنما يؤتى الرجل من سوء فهمه أو من سوء قصده من كليهما ، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال . ولو دليتم بحبل لهبط على الله
وأما تأويل الترمذي وغيره بالعلم فقال شيخنا : هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية بل بتقدير ثبوته ، فإنما يدل على الإحاطة ، والإحاطة ثابتة عقلا ونقلا وفطرة كما تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ، ولا عن يمينه ، فإن عن يمينه ملكا ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى ، فقال له أبو رزين كيف يسعنا وهو شخص واحد ونحن جميع فقال " سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، فالله أكبر من ذلك " [ ص: 486 ] ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وقدر مخاطبته له فإنه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه ، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده له ، وكذلك إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا عن يمينه ولا عن يساره ، ويدعوه من العلو لا من السفل .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " واتفق العلماء على أن لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم منهي عنه ، وروى رفع البصر إلى السماء للمصلي أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .
فهذا مما جاءت له الشريعة تكميلا للفطرة ، لأن الداعي السائل الذي أمر بالخشوع وهو الذل والسكون لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله ، بل يناسبه الإطراق وخفض بصره أمامه ، فليس في هذا النهي ما ينفي كونه فوق سماواته على عرشه كما زعم بعض جهال الجهمية ، فإنه لا فرق عندهم بين تحت التحت والعرش بالنسبة إليه ، ولو كان كذلك لم ينه عن رفع بصره إلى جهة ، ويؤمر برده إلى غيرها ، لأن الجهتين عند الجهمية سواء بالنسبة إليه .
وأيضا فلو كان الأمر كذلك لكان النهي ثابتا في الصلاة وغيرها وقد قال تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فليس العبد منهيا عن رفع بصره إلى السماء مطلقا ، ، إنما نهي عنه في الوقت الذي أمر فيه بالخشوع ; لأن كما قال تعالى : ( خفض البصر من تمام الخشوع خشعا أبصارهم ) وأيضا فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء لكون الرب ليس في السماء لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات ، ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو ، لبين لهم ذلك بيانا شافيا ، ولم يحملهم فيه على أدب من آداب المصلي ، وهو إطراقه بين يدي ربه [ ص: 487 ] وخشوعه ورمي بصره إلى الأرض كما يفعل بين يدي الملوك ، فهذا إنما يدل على نقيض قولهم .
فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز إلا من جهة العلو ، وإن ذلك لا ينافي إحاطته ، وكونه في قبضته ، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء ، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر ، وإن التوجه إلى الله تعالى ، بل هو فوق خلقه محيط بهم مباين لهم . إنما تنشأ الشبهة الفاسدة عن اعتقادين فاسدين : إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم ولا علوه على مخلوقاته
أحدهما : أن يظن أنه إذا كان العرش كريا والله فوقه ، لزم أن يكون كريا .
الاعتقاد الثاني : أنه إذا كان كريا صح التوجه إليه من جميع الجهات ، وهذان الاعتقادان خطأ وضلال فإن الله سبحانه مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها كما لا يجور أن يظن به أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها ، فقد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء ، وأن السماوات والأرض في يده كخردلة في كف أحدنا ، وهذا يزيل كل إشكال ويبطل كل خيال .