[ ص: 596 ] وقال القاضي : كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلا ، فهي من الأصول ، عقلية كانت أو شرعية ، والفرع ما لا يحرم الخلاف فيه أو ما لا يأثم المخطئ فيه ، وهذا وإن كان أقرب مما قبله باطل أيضا ، فإن كان كثير من مسائل الفروع قطعيا وإن كان فيها خلاف وإن كان لا يأثم المخطئ فيها لخفاء الدليل عليه وإن كان قطعيا فلا يلزم الاشتراك في القطعيات ، وقد سلم القاضي ذلك فيما إذا خفي عليه النص . أبو بكر بن الباقلاني
وقد ذكر بعضهم فرقا آخر فقال : الأصوليات هي المسائل العلميات ، والفروعيات هي المسائل العلمية المطلوب منها أمران : العلم والعمل ، والمطلوب من العمليات العلم والعمل أيضا ، وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته ، وبغضه الباطل الذي يخالفها ، فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه وذلك عمل بل هو أصل العمل ، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان ، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال ، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه ، فإن كثيرا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم غير شاكين فيه ، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه .
فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جدا ، به تعرف حقيقة الإيمان .
فالمسائل العلمية عملية والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل .
وفرق آخرون بين الأصول والفروع بأن مسائل الأصول هي التي يكفر جاحدها ، كالتوحيد والرسالة والمعاد وإثبات الصفات ، ومسائل الفروع ما لا يكفر جاحدها ، كوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة واشتراط الطمأنينة ووجوب مسح الرأس كله في الوضوء ونحو ذلك ، وهذا الفرق غير مطرد ولا منعكس ، فإن كثيرا من مسائل الفروع يكفر جاحدها ، وكثير من مسائل الأصول لا يكفر جاحدها كما تقدم بيانه .
وأيضا فالتكفير حكم شرعي ، فالكافر من كفره الله ورسوله ، جحد ما علم أن الرسول جاء به ، سواء كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية ، فمن جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين وجله . والكفر
[ ص: 597 ] وفرق آخرون بين الأصول والفروع بأن الأصول ما تتعلق بالخبر ، والفروع ما تتعلق بالطلب ، وهذا الفرق غير خارج عن الفروق المتقدمة ، وهو فاسد أيضا ، فإن العبد مكلف بالتصديق بهذا وهذا ، علما وإيمانا وعملا وحبا ورضا ، وموالاة عليه ومعاداة كما تقدم .
وفرق آخرون بينهما بأن مسائل الأصول هي ما لا يسوغ التقليد فيها ، ومسائل الفروع يجوز التقليد فيها ، وهذا مع أنه دور ممتنع فإنه يقال لهم : ما الذي يجوز فيه التقليد ؟ فيقولون : مسائل الفروع ، والذي لا يجوز التقليد فيه مسائل الأصول ، وهو أيضا فاسد طردا وعكسا ، فإن كثيرا من مسائل الفروع لا يجوز التقليد فيها كوجوب الطهارة والصلاة والزكاة وتحريم الخمر والربا والفواحش والظلم ، فإن من لم يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بذلك وشك فيه لم يعرف أنه رسول ، كما أن من لم يعلم أنه جاء بالتوحيد وتصديق المرسلين وإثبات معاد الأبدان وإثبات الصفات والعلو والكلام ، لم يعرف كونه مرسلا فكثير من المسائل الخبرية الطلبية يجوز فيها التقليد للعاجز عن الاستدلال ، كما أن كثيرا من المسائل العملية لا يجوز فيها التقليد .
فتقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به تقسيم غير مطرد ، ولا منعكس ولا عليه دليل صحيح .
وأيضا فالتقليد قبول قول الغير بغير حجة ، ومن قبل قول غيره فيما يحكيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء به خبرا أو طلبا ، فإنما قبل قوله لما أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه حجة لكن تقدير مقدماتها ودفع الشبه المعارضة لها قد لا يقدر عليه كل أحد ، فما كل من عرف الشيء بدليله أمكنه تقريره بجميع مقدماته والتعبير عنه ولا دفع المعارض له ، فإن كان العجز عنه تقليدا كان جمهور الأمة مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة والمعاد ، وإن يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة والمعاد ، وإن لم يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في أكثر الأحكام العملية التي يحتاجون إليها ، وهذا هو الحق ، فإن جمهور الأمة مبنى تعبداتها وتحريمها وتحليلها على ما علمته من نبيها بالضرورة ، وأنه جاء به ، ولو سئلت عن تقريره لعجز عنه أكثرهم كما يجزم بالتوحيد ، وأن الله فوق خلقه ، وأن القرآن كلامه ، وأنه يبعث من في القبور ، ولو سئل عن ذلك لعجز عنه أكثرهم .
وأما المقام السادس : وهو أن الظن المستفاد من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على [ ص: 598 ] زعمهم أقوى من الجزم المستند إلى تلك القضايا الوهمية ، فهذا يعرفه من عرف هذا وهذا ، ومن لا خبرة له بالأمرين يسمعهم يقولون لقضاياهم الباطلة : قواطع عقلية وبراهين يقينية ، ويقولون لنصوص القرآن والسنة : ظواهر سمعية لا تفيد اليقين ، قد يقع له صحة قولهم تقليدا لهم وإحسانا للظن بهم ، واستنادا إلى بعض الشبه التي يذكرونها وأما المستبصر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفيما عند القوم فإنه يجزم بالضرورة أن الأمر بخلاف ذلك ، وأن قضاياهم التي خالفوا فيها النصوص لا تفيد علما ولا ظنا البتة ، بل يقولون : صريح العقول والفطر تشهد بكذبها وبطلانها ، وإن اتفق عليها طائفة كثيرة ، فأكثر طوائف أهل الباطل جميعهم تجد كل طائفة منهم متفقين على ما هو معلوم الفساد بضرورة العقل وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فالمتكلمون كل طائفة منهم تشهد على مخالفيها بأنهم خالفوا صريح المعقول والفطرة ، وقد ذكرنا من ذلك طرفا فيما تقدم من هذا الكتاب مما خالف المتكلمون والفلاسفة صريح المعقول فيه . والعجب أنك ترى كثيرا منهم يقطع بالقول ويكفر من خالفه ثم يقطع هو بخلافه أو يتوقف فيه ، وهذا كثير فيهم جدا .
قال : كل فريق من المبتدعة يعتقد أن ما يقوله هو الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ لأن كلهم يدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر شعارها يرون أن ما جاء به أبو المظفر السمعاني محمد هو الحق غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك ، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام ، وأن الحق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يعتقده وينتحله .
غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف ، وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث .
وأما سائر الفرق فطلبوا الدين بغير طريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم ، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم ، فإن استقام لهم قبلوه ، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه ، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه [ ص: 599 ] بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم ، وعلوا السنة تحت أقدامهم .
وأما أهل السنة فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم ، وطلبوا الدين من قبلها وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم وآرائهم عرضوه على الكتاب والسنة ، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم له ، وإن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم ، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق ، ورأي الإنسان قد يكون حقا وقد يكون باطلا .
وهذا قول وهو أوحد أهل زمانه قال : ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت عليه شاهدين من الكتاب والسنة ، فإن أتي بهما وإلا رددته . أبي سليمان الداراني
( قال ) : ومما يدل أن أنك لو طلعت جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها ، قديمها وحديثها ، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار ، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ، ونمط واحد ، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنه ولا يميلون عنها ، قلوبهم في ذلك على قلب واحد ، ونقلهم لا ترى فيه اختلافا ولا تفرقا في شيء ما ، وإن قل ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد ، وهل على الحق دليل أبين من هذا ؟ قال الله تعالى : أهل الحديث على الحق أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .
وأما إذا نظرت إلى أهل البدع رأيتهم متفرقين مختلفين شيعا وأحزابا ، ولا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد ، يبدع بعضهم بعضا ، بل يرتقون إلى التكفير ، يكفر الابن أباه ، والأخ أخاه ، والجار جاره ، وتراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون أوما سمعت بأن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللون يكفر البغداديون منهم البصريين ، والبصريون البغداديين ويكفر أصحاب [ ص: 600 ] وابنه أبي علي الجبائي أبا هاشم وأصحابه ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أبا علي وأصحابه ، وكذلك سائر رءوسهم وأصحاب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ، وكذلك الخوارج والرافضة فيما بينهم ، وسائر المبتدعة كذلك ، وهل على الباطل أظهر من هذا ؟ قال الله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله فبرأ الله رسوله من أهل هذا التفرق والاختلاف .
( قال ) : وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل ، فأورثهم الاتفاق والائتلاف ، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم فأورثهم التفرق والاختلاف ، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما تختلف ، وإن اختلفت في لفظه أو كلمه فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه ، وأما المعقولات والخواطر ، والأراء فقلما تتفق ، بل عقل كل واحد ورأيه وخاطره يري صاحبه غير ما يري الآخر .