فصل
وأما المقام الثامن : وهو وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم ، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم ، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك وكذلك تابع التابعين مع التابعين . انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث
هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم ونقلهم ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كنقلهم الوضوء والغسل من الجنابة وأعداد الصلوات وأوقاتها ، ونقل الأذان والتشهد والجمعة والعيدين ، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات ، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرنا ( وحينئذ ) فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم البتة ، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل ، على أن كثيرا من القادحين في دين الإسلام قد طردوا وقالوا : لا وثوق لنا بشيء من ذلك البتة .
قالوا : وأظهر شيء الآذان والإقامة ، وقد اختلفوا عليه فيهما ، هل يرجع أم لا ؟ ويثني الإقامة أو يفرد ؟ ، وهذا تشهد الصلاة قد اختلف فيه عنه صلى الله عليه وسلم على وجوده ، وكذلك جهره بالبسملة وإخفاؤها ، وهو من أظهر الأمور ، يفعل في اليوم والليلة خمس مرات بحضرة الجمع .
[ ص: 606 ] قالوا : وأظهروا من ذلك حجة الوداع فإنها حجة واحدة ، وقد شاهده الجمع العظيم والجم الغفير ، فهذا يقول أفرد ، وهذا يقول تمتع ، وهذا يقول قرن ، فكيف لنا بعد ذلك بالوثوق بشيء من الأحاديث ، فلذلك أطرحناها رأسا ، فهؤلاء أعطوا الانسلاخ من السنة والدين حقه ، وطردوا كفرهم وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم ، وتقسمت الفرق قولهم هذا في رد الأحاديث ( فطائفة ) ردتها رأسا وجوزت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ والغلط ، وهؤلاء سلف الخوارج الذين قدح رئيسهم في فعله صلى الله عليه وسلم وقال : له وقال له الآخر : اعدل ، فإنك لم تعدل ، فقدح هذا في قصده وقدح الآخر في حكمه وعدله . إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله
وطائفة أخرى قالوا : لا نقبل منها إلا ما وافق القرآن ، وما لا يشهد له القرآن فإنا نرده ولا نقبله ، وهذه الطائفة هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : " " وفي السنن من حديث يوشك الرجل أن يكون شبعان متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : بيننا وبينكم القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المقدام بن معدي كرب " وممن أحسن الرد على هذه الطائفة ألا هل رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله رحمه الله في كتاب جماع العلم وإبطال الاستحسان وفي الرسالة وغيرها . الشافعي
وطائفة ثالثة قالت : نقبل من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترها ونرد آحادها ، سواء كان مما يقتضي علما أو عملا ، وقد ناظر بعض أهل زمانه في ذلك ، فأبطل الشافعي قوله وأقام عليه الحجة ، وعقد في الرسالة بابا أطال فيه الكلام في تثبيت خبر الواحد ولزوم الحجة به ، وخروج من رده عن طاعة الله ورسوله ، ولم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات ، ولا يعرف [ ص: 607 ] هذا الفرق عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين ، ولا من تابعهم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ، وإنما يعرف عن رءوس أهل البدع ومن تبعهم . الشافعي
وطائفة رابعة : ردت أخبار الصحابة كلهم إلا ما كان من أخبار أهل البيت وشيعتهم خاصة ، وهذا مذهب الرافضة ، فلم يقبل هؤلاء قول أبي بكر وعمر وعثمان .
وطائفة خامسة : ردت أخبار المقتتلين يوم الجمل وصفين ، وقبلت خبر غيرهم قالوا : لأنه قد فسق إحدى الطائفتين وهي غير معينة فلا يقبل خبرها ويقبل خبر غيرها .
وطائفة سادسة : قبلت خبر الأربعة بشرط تنائي بلدانهم ، وأن يكون كل واحد منهم قبله عن غير الذي قبله صاحبه ، ثم قبله عنه من أداه إلينا ممن لم يقبل عن صاحبه ، حكاه عمن ناظره عليه ورده إذا لم يكن على هذه الصفة . الشافعي
( قال ) فقلت له : أرأيت لو لقيت رجلا من أهل الشافعي بدر وهم المقدمون ممن أثنى الله عليهم في كتابه ، فأخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكان يلزمك أن تقول به ؟ قال : لا يلزمني ، لأنه قد يمكن في الواحد الغلط والنسيان ، ثم أخذ في إبطال هذا المذهب . الشافعي
وطائفة سابعة : قبلت خبر الواحد إذا لم يكن بين الصحابة نزاع في مضمونه وردته إذا تنازعوا في حكمه ، حكاه أيضا ورده . الشافعي
وطائفة ثامنة : قبلت خبر الواحد فيما لا يسقط بالشبهة ، وردته فيما يسقط بها كالحدود التي تدرأ بالشبهات ، وزعمت أن احتمال الغلط والكذب عن الراوي شبهة في إسقاط الحد ، وهذا مذهب المعتزلة ، وحكوه عن أبي عبد الله البصري .
وطائفة تاسعة : ردت خبر الواحد إذا لم يروه غيره ، وقبلته إذا رواه ثقة آخر فصاعدا حكاه عنهم أبو بكر الرازي من الحنفية .
وطائفة عاشرة : ردته فيما تعم به البلوى وقبلته فيما عداه ، وحكوه عن أبي حنيفة ، وهو كذب عليه وعلى أبي يوسف ومحمد ، فلم يقل ذلك أحد منهم البتة ، وإنما هذا قول متأخريهم ، وأقدم من قال به وتبعه عيسى بن أبان وغيره . أبو الحسن الكرخي
وطائفة حادية عشر : ردوه إذا كان الراوي له من الصحابة غير فقيه بزعمهم وقبلوه إذا كان فقيها ، وبمثل ذلك ردوا رواية إذا خالفت آراءهم ، قالوا : لم يكن فقيها ، وقد أفتى في زمن أبي هريرة وأقره على الفتوى ، واستعمله نائبا على عمر بن الخطاب البحرين وغيرها ، ومن تلاميذه وغيره من الصحابة ، عبد الله بن عباس وغيره من التابعين . وسعيد بن المسيب
[ ص: 608 ] قال : روى العلم عنه ثمان مائة ما بين صاحب وتابع ، وكان من أعلم الصحابة بالحديث وأحفظهم له ، وكان قارئا للقرآن ، وكان عربيا ، والعربية طبعه ، وكان الصحابة يرجعون إلى روايته ويعملون بها ، نعم كان فقهه نوعا آخر غير الخواطر والآراء . البخاري
قال : ناظرت الشافعي محمدا في مسألة المصراة فذكرت الحديث ، فقال هذا خبر رواه ، وكان الذي جاء به شرا مما فر منه أو كما قال . أبو هريرة
وطائفة ثانية عشر : ردوا الحديث إذا خالف ظاهر القرآن بزعمهم ، وجعلوا هذا معيارا لكل حديث خالف آراءهم ، فأخذوا عموما بعيدا من الحديث لم يقصد به فجعلوه مخالفا للحديث وردوه به ، فردوا حديث في خيار المجلس بمخالفة قوله تعالى : ابن عمر وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وردوا أحاديث القرعة لمخالفة ظاهر قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وردوا حديث فيمن أعتق ستة أعبد في مرض موته لمخالفة ظاهر قوله : عمران بن الحصين أوفوا بالعقود وردوا أحاديث لمخالفة ظاهر قوله : فاطمة بنت قيس أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وردوا أحاديث رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة لمخالفة ظاهر قوله : لا تدركه الأبصار وردوا أحاديث الشفاعة لمخالفة ظاهر قوله : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وردوا حديث العرايا والمصراة لمخالفة ظاهر الربا لهما ، وردوا حديث " " بظاهر قوله : لعن الله المحلل والمحلل له حتى تنكح زوجا غيره وردوا حديث " " بظاهر قوله : من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود وردوا [ ص: 609 ] حديث " " بظاهر قوله : النهي عن بيع الرطب بالتمر وأحل الله البيع وردوا حديث " " بهذا الظاهر ، وردوا حديث الحكم بالشاهد واليمين بظاهر قوله تعالى : النهي عن بيع الحاضر للبادي وعن تلقي الركبان واستشهدوا شهيدين من رجالكم وردوا حديث " " بظاهر قوله : لا يقتل مؤمن بكافر النفس بالنفس وردوا حديث " " بظاهر قوله : لا نكاح إلا بولي حتى تنكح زوجا غيره وردوا حديث إباحة لحوم الخيل بظاهر قوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وردوا حديث : " بظاهر قوله تعالى : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وظاهر قوله : " " وردوا " فيما سقت السماء العشر " بظاهر قوله : ذكاة الجنين [ ص: 610 ] ذكاة أمه حرمت عليكم الميتة وردوا حديث تحريم تفضيل بعض الولد على بعض في العطية ، وقوله : " " وتسميته إياه جورا وامتناعه من الشهادة على الجور ، وقوله أشهدوا على هذا غيري تهديدا وإعلاما أن مسلما لا يشهد على مثل ذلك ، وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهادة عليه ، وردوا حديث " إن هذا لا يصلح بقوله : لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فاقرءوا ما تيسر منه وردوا حديث " " بظاهر قوله : لا يقبل الله صلاة من لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده واسجدي واركعي مع الراكعين وردوا الحديث لكونه يتضمن زيادة على القرآن فيكون نسخا له والقرآن لا ينسخ بالحديث ، وردوا بهذه القاعدة الفاسدة ما شاء من الأحاديث الصحيحة الصريحة ، كأحاديث فرض الطمأنينة ، وأحاديث فرض الفاتحة ، وحديث تغريب الزاني .
وقد أنكر الأئمة على من رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، وقالوا : لا ترد السنة بالقرآن فكيف بمن ردها برأي أو قياس أو قاعدة هو وضعها ، ولهذا كان الصواب مع من قبل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن دون من رده بظاهر القرآن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ولا تزر وازرة وزر أخرى [ ص: 611 ] وأعجب من ذلك من رده بقوله : وأنه هو أضحك وأبكى وكان الصواب مع من قبل حديث في إسقاط النفقة والسكنى للمبتوتة دون من رده بقوله تعالى : فاطمة بنت قيس أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وكان الصواب قبول حديث خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر دون رده بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى وهذا وإن وقع لبعض الصحابة فلم يتفقوا كلهم على رد هذه الأحاديث بالقرآن ، بل كان الذين قبلوه أضعاف أضعاف الذين ردوه ، وقولهم هو الراجح قطعا دون قول الآخرين فلا يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أبدا إلا بحديث مثله ناسخ له يعلم مقاومته له ومعارضته له وتأخره عنه ، ولا يجوز رده بغير ذلك البتة .
وطائفة أخرى ردت الأحاديث بعدم معرفتها بمن ذهب إليها ، وسموا عدم علمهم إجماعا وردوا به كثيرا من السنن ، وبالغ وبعده الإمام الشافعي أحمد في الإنكار على هؤلاء ووسع الرد عليهم في الرسالتين وكتاب جماع العلم وغيرها ، ولا يتصور أن تجمع الأمة على خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا أن يكون هناك سنة صحيحة معلومة ناسخة ، فتجمع على القول بالسنة الناسخة ، وأما أن تتفق على العمل بترك حديث لا ناسخ له ، فهذا لم يقع أبدا ، ولا يجوز نسبة الأمة إليه ، فإنه قدح فيها ونسبة لها إلى ترك الصواب والأخذ بالخطأ . الشافعي
قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : من ادعى الإجماع فقد كذب ، لعل الناس قد اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ، ولكن يقول : لا أعلم الناس اختلفوا ( قال ) في رواية المروذي : كيف يجوز للرجل أن يقول : أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم ، لو قال : إني لا أعلم لهم مخالفا جاز ( وقال ) في رواية أبي طالب : هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون ، ولكن يقول : لا أعلم فيه اختلافا : فهو أحسن من قوله إجماع الناس .
وقالوا في رواية ابن الحارث : لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع ، لعل الناس اختلفوا .
[ ص: 612 ] وليس مراده بهذا استبعاد وجود الإجماع ، ولكن أحمد وأئمة الحديث بلوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها ، فبين الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب ، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها ، قال في رواية الشافعي الربيع عنه ما لا يعلم فيه نزاع ليس إجماعا ، وقال أيضا : وقد أنكر على منازعه دعوى الإجماع وبين بطلانها .
قال : فهل من إجماع ؟ قلت نعم بحمد الله كثير في جهل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك هو الذي إذا قلت : ( أجمع الناس ) لم تجد أحدا يعرف شيئا يقول لك : ليس هذا بإجماع فيها وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه ودون الأصول غيرها .
ثم قال : فقال قد ادعى بعض أصحابك الإجماع الشافعي بالمدينة ، فقلت له : فما قلت وسمعت أهل العلم غيرك في كل بلد يقولون فيما ادعي من ذلك ؟ قال ما سمعت منهم أحدا أذكر قوله إلا عاتبا لذلك ، وإن ذلك عندي لمعيب ، ثم قال بعد ذلك : أوما كفاك عيب الإجماع أن لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الإجماع إلا فيما لا يختلف فيه أحد إن كان أهل زمانك هذا ، قال : فقد ادعاه بعضكم أفحمدت ما ادعاه منه ؟ قال : لا ، قلت : فكيف صرت إلى أن تدخل فيما ذممت في أكثر ما عبت ، إلا يستدل من طريقك أن الإجماع هو ترك ادعاء الإجماع وهذا كثير في كلامه رحمه الله . والمقصود أن أئمة الإسلام لم يزالوا ينكرون على من رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه لا يعلم بها قائلا وزعم أن ذلك إجماع ، ولا يتوقف العمل بالحديث على أن يعلم من عمل به من الأمة ، بل هو حجة بنفسه عمل به أو لم يعمل ، ولا يمكن أن تجتمع الأمة على ترك العمل به البتة ، بل لا بد أن يكون في الأمة من ذهب إليه وإن خفي على كثير من أهل العلم قوله .