في إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل ، وأصحاب تمثيل ، وأصحاب تجهيل ، وأصحاب سواء السبيل انقسام الناس في نصوص الوحي
الصنف الأول : أصحاب التأويل ، وهم أشد الناس اضطرابا إذ لم يثبت لهم قدم في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول ، ولا ضابط مطرد منعكس يجب مراعاته وتمتنع مخالفته ، بخلاف سائر الفرق فإنهم جروا على ضابط واحد ، وإن كان فيهم من هو أشد من أصحاب التأويل .
الصنف الثاني : أصحاب التخيل ، وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق ، إذ ليس في قواهم إدراكها ، وإنما أبرزوا لهم المقصود في صورة [ ص: 73 ] المحسوس ، قالوا : ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا محايثه ، ولا مباينا له ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ، ولا فوقه ، ولا تحته ، ولا عن يمينه ، ولا عن يساره لنفرت عقولهم من ذلك ، ولم تصدق بإمكان هذا الموجود ، فضلا عن وجوب وجوده ، وكذلك لو أخبرهم بحقيقة كلامه ، وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ، ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ، ولو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه لم يفهموه ، فقربوا له الحقائق بإبرازها في الصور المحسوسة ، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان ، أو نار فيها أنواع العذاب ، تفهيما للذات الروحانية بهذه الصورة وللألم الروحاني بهذه الصورة .
وهكذا فعلوا في وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله ، ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل موجود ، وله سرير عظيم وهو مستو على سريره ، يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهى ويرضى ويغضب ، ويأتي ويجيء وينزل ، وله يدان ووجه ، ويفعل بمشيئة ، وإذا تكلم العباد سمع كلامهم ، وإذا تحركوا رأى حركاتهم ، وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه ، وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول : " " إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية ، قالوا : ولا يحل لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب الإلهية ، وأما الخاصة فإنهم يعلمون أن هذه أمثال مضروبة لأمور عقلية تعجز عن إدراكها عقول الجمهور ، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة . من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له
وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة أن الذي أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له تطابق ما أخبروا به ، ولكنه أمثال وتخييل وتفهيم بضرب الأمثال ، وقد ساعدهم أرباب التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وصرحوا في ذلك بمعنى ما صرح به هؤلاء في باب المعاد وحشر الأجساد بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفوقية ، ونصوص الصفات الخبرية ، لكن هؤلاء أوجبوا أو سوغوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها وظواهرها ، [ ص: 74 ] وظنوا أن الرسل قصدت ذلك من المخاطبين تعريضا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها واستخراج معان تليق بها ، وأولئك حرموا التأويل ورأوه عائدا على الشريعة بالإبطال ، والطائفتان متفقتان على إبطال حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر .
والصنف الثالث : أصحاب التجهيل الذين قالوا : نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يدرى ما أراد الله ورسوله منها ، ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها ، ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله ، وهي عندنا بمنزلة : ( كهيعص ) و ( حم عسق ) و ( المص ) فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها ، ولم نعرف معناه ، وننكر على من تأوله ، ونكل علمه إلى الله تعالى ، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ، ولا يفهمون معنى قوله : ( لما خلقت بيدي ) وقوله : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) وقوله : ( الرحمن على العرش استوى ) وأمثال ذلك من نصوص الصفات .
وبنوا هذا المذهب على أصلين : أحدهما : أن هذه النصوص من المتشابه ، والثاني : أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله ، فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به ، ولازم قولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا : تجرى على ظواهرها ، وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل ، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله ، فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون : تجرى على ظواهرها ، ويقولون : الظاهر منها مراد ، والرب منفرد بعلم تأويلها ، وهل في التناقض أقبح من هذا ؟
وهؤلاء غلطوا في المتشابه وفي جعل هذه النصوص من المتشابه ، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ، فأخطئوا في المقدمات الثلاث واضطرهم إلى هذا : التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين ، وسدوا على نفوسهم الباب ، وقالوا : لا نرضى بالخطأ ، ولا وصول لنا إلى الصواب ، فتركوا التدبير المأمور به والتعقل لمعاني النصوص ، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك ، وظنوا أنها [ ص: 75 ] أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها ، وأولئك جعلوها عرضة للتأول والتحريف كما جعلها أصحاب التخييل أمثالا لا حقيقة لها .
وقابلهم الصنف الرابع وهم صنف التشبيه والتمثيل ، ففهموا منها مثل ما للمخلوقين وظنوا أن لا حقيقة لها إلا ذلك ، وقالوا : محال أن يخاطبنا الله بما لا نعقله ، ثم يقول : ( لعلكم تعقلون ) ( لعلكم تتفكرون ) ( ليدبروا آياته ) فهذه الفرق لا يزال يبدع بعضهم بعضا ويضلله ويجهله ، وقد تصادمت كما ترى ، فهم كزمرة من العميان تلاقوا فتصادموا ، كما قال أعمى البصيرة منهم :
ونظيري في العلم مثلي أعمى فكلانا في حندس نتصادم
وهدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى ، فأثبتوا حقائق الأسماء والصفات ، ونفوا عنها مماثلة المخلوقات ، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين ، وهدى بين ضلالتين ، يثبتون له الأسماء الحسنى والصفات العليا بحقائقها ، ولا يكيفون شيئا منها ، فكان الله تعالى أثبتها لنفسه ، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها ، فإن الله تعالى لم يكلف كل عباده بذلك ولا أراده منهم ولا جعل لهم إليه سبيلا ، بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته ، وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان ، قد حجبت عنهم معرفة كنهها وكيفيتها .وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار ، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كنهه ، فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارا من خمر ، وأنهارا من عسل ، وأنهارا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته ، إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من دود القز ، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا ، كما قال : " ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء والصفات " ، ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك . فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها [ ص: 76 ] ومعانيها ، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها ، وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته الله تعالى لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن : أحدها : قوله تعالى : ( ابن عباس للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) ، الثاني : قوله تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) ، الثالث : قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فنفى سبحانه وتعالى المثل عن هذا المثل الأعلى ، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته .
فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون ، وأنس به العارفون ; وقامت شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية المضبوطة بالبراهين العقلية ، فاتفق على الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة ، فإذا قال المثبت : يا لله ، قام بقلبه رب قيوم قائم بنفسه ، مستو على عرشه ، مكلم ، متكلم ، سامع ، قدير ، مريد ، فعال لما يريد ، يسمع دعاء الداعين ، ويقضي حاجات السائلين ، ويفرج عن المكروبين ، ترضيه الطاعات ، وتغضبه المعاصي ، تعرج الملائكة بالأمر إليه ، وتنزل بالأمر من عنده . وإذا شئت زيادة تعريف بهذا المثل الأعلى فعد قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم ، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد ، فإذا نسبت قوتهم إلى قوة الرب تعالى لم تجد نسبة إليها البتة كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد ، وإذا قدرت علوم الخلائق اجتمعت لواحد ثم قدرت جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر ، وكذا في حكمته وكماله ، وقد نبهنا سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) فقدر البحر المحيط بالعالم مدادا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مدادا يكتب به كلمات الله نفدت البحار ونفدت الأقلام التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى آخر الدنيا لم تنفد كلمات الله .
[ ص: 77 ] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أن السماوات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله " وهو سبحانه فوق عرشه يعلم ويرى ما عباده عليه .
فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه المثل الأعلى فعرفوه به وعبدوه به وسألوه به ، فأحبوه وخافوه ورجوه ، وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واطمأنوا بذكره وأنسوا بحبه بواسطة هذا التعريف ، فلم يصعب عليهم بعد ذلك معنى استوائه على عرشه ، وسائر ما وصف به نفسه من صفات كماله ، إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظير لذلك ولا مثيل له ولم يخطر بقلوبهم مماثلة شيء من المخلوقين ، وقد أعلمهم الله سبحانه على لسان رسوله " " و " أنه يقبض سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفه كخردلة في كف أحدكم " و " " فأي يد للخلق وأي إصبع تشبه هذه اليد وهذه الإصبع حتى يكون إثباتها تشبيها وتمثيلا ؟ أنه يضع السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، وسائر المخلوقات على إصبع
فقاتل الله أصحاب التحريف والتبديل ، ماذا حرموه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية ، وماذا تعرضوا به من زبالة الأذهان ، ونخالة الأفكار ، وما أشبههم بمن كان [ ص: 78 ] غذاؤهم المن والسلوى بلا تعب فآثروا عليه الفوم والعدس والبصل ، وقد جرت عادة الله سبحانه أن يذل من آثر على الأعلى ، ويجعله عبرة للعقلاء .
فأول هذا الصنف إبليس ، لعنه الله ، ترك السجود لآدم كبرا فابتلاه الله تعالى بالقيادة لفساق ذريته ، وعباد الأصنام الذين لم يقروا بنبي من البشر ورضوا بآلهة من الحجر ، والجهمية نزهوا الله عن عرشه لئلا يحويه مكان ثم قالوا : هو في الآبار والأنجاس ، وفي كل مكان ، وهكذا طوائف الباطل لم يرضوا بنصوص الوحي فابتلوه بزبالة أذهان المتحيرين ، وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين .