الوجه الثالث : قوله : إن قدمنا النقل لزم الطعن في أصله ممنوع فإن قوله : [ ص: 110 ] العقل أصل النقل ، إما أن يريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر ، وأصل في علمنا بصحته ، فالأول لا يقوله عاقل ، فإنما هو ثابت في نفس الأمر ، ليس موقوفا على علمنا به ، فعدم علمنا بالحقائق لا ينافي ثبوتها في نفس الأمر ، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه ، سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه ، كما أنه رسول الله حقا وإن كذبه من كذبه ، كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق ، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه ، فلا يتوقف ذلك على وجودنا ، فضلا عن علومنا وعقولنا ، فالشرع المنزل من عند الله مستغن في علمنا وعقلنا ، ولكن نحن محتاجون إليه أن نعلمه ، فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن له قبل ذلك ، وإذا فقده كان ناقصا جاهلا .
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته ، وهذا هو مراده ، فيقال له : أتعني بالعقل القوة الغريزية التي فينا ، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة ؟ فالأول لم يرده ، ويمتنع إرادته ; لأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل ، وإن كانت شرطا في كل علم عقلي أو سمعي ، وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له ، وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة بالعقل ، قيل لك : ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته ، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر ، والعلم بصحة السمع غايته يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات ، وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول ، بل ذلك بالآيات والبراهين الدالة على صدقه ، فعلم أن جميع المعقولات ليست أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ; لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري في أحد قوليه ، وأكثر أصحابه يقولون : إن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عند ظهور المعجزات الحادثة ضروري ، فما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير ، مع أن العلم بصدقه له طرق كثيرة متنوعة ، وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه ، لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع ، وهذا بحمد الله بين واضح ، وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها ، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها ، فلا يلزم من صحة المنقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ، ولا من فساد هذه فساد تلك ، فلا يلزم من تقديم السمع على ما يقال : إنه معقول في الجملة القدح في أصله .