الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه ، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة ، وإنكار وجهه الأعلى ، ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه ، وسائر ما أخبر به الرسول عنه ، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله ، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد . وتوحيد
ثم يقال : لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة المعطلون لكان قبول الفطر له أعظم من قبولها للإثبات الذي هو ضلال وباطل عندهم ، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام ، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها ، فكما أن في الأبدان قوة تفرق [ ص: 187 ] بين الغذاء الملائم والمنافي ، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل وأعظم من ذلك ، وخاصة العقل التفريق بين الحق والباطل ، كما أن خاصة السمع التفريق بين الأصوات حسنها وقبيحها ، وخاصة البصر التمييز بين المرئيات وأشكالها وألوانها ومقاديرها ، فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق ، وأنها لو صرح لها به لأنكرت ولم تذعن إلى الإيمان ، فقد سلبتم العقول خاصتها وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفطرها عليها ، وكان نفس ما ذكرتم أن الرسل لو خاطبت به الناس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم ، وأنه مخالف للعقل والفطرة ، كما هو مخالف للسمع والوحي .
فتأمل هذا الوجه فإنه كاف في إبطال قولهم ، ولهذا إذا أراد أهله أن يدعوا الناس إليه ويقبلوه منهم وطئوا إليه توطيئات ، وقدموا له مقدمات يثبتونها في القلب درجة بعد درجة ، ولا يصرحون به أولا ; حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظا مزخرفة ، واستعاروا المخالفة ألفاظا شنيعة ، فتجتمع تلك المقدمات التي قدموها ، وتلك الألفاظ التي زخرفوها ; وتلك الشناعات التي على من خالفهم شنعوها ، فهنالك إن لم يمسك الإيمان من يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، وإلا ترحل عن القلب ترحل الغيث استدبرته الريح .
الوجه الحادي والأربعون : إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام ، وهي ، وبطلان الإلزام يستلزم بطلان ملزومه ; فإن من لوازمه أنه لا يستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ، ولا بيان الحق في نفسه ، ومن لوازمه أن يكون كلامه متضمنا لضد ذلك في ظاهره وحقيقته ، ومن لوازمه القدح في معرفته وعلمه ، أو في فصاحته وبيانه أو في فصحه وإرادته ، كما تقدم تقريره مرارا ، ومن لوازمه أن يكون من أعظم الكفر أعلم بالله منه أو أنصح ، ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرسل قد قصر في هذا الباب غاية التقصير ; وأفرط في المعطلة النفاة غاية الإفراط ، وتنوع في غاية التنوع ، فمرة يقول : " أين الله " ؟ ومرة يقر عليها من سأله ولا ينكرها ، ومرة يشير بأصبعه ، ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب وبصره ، ومرة يصفه بالمجيء والنزول والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة ، ومرة يثبت له الوجه والعين واليد والأصبع والقدم والرجل ، والضحك والفرح والرضا والغضب ، والكلام والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ، ورؤيته مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم ، ومحاضرته لهم محاضرة ، ورفع الحجاب بينه وبينهم وتجليه لهم [ ص: 188 ] واستدعاءهم لزيارته ، وسلامه عليهم سلاما حقيقيا ( التجسيم والتشبيه قولا من رب رحيم ) واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه ، وخلقه ما يشاء بيده ، وكتابته كلامه بيده ، ويصفه بالإرادة والمشيئة والقدرة والقوة والحياء ، وقبض السماوات وطيها بيده والأرض بيده الأخرى ، ووضعه السماوات على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع ، إلى أضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه جحودا وإنكارا ، لا إيمانا وتصديقا ، كما ضحك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقائله وما شهد لقائله بالإيمان شهد له هؤلاء بالكفر والضلال ، وما أوصى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره ، يوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه ، وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه ، يطلق عليه هؤلاء ضده ونقيضه ، وما نزه ربه عنه من العيوب والنقائص ، يمسكون عن تنزيهه عنه ، وإن اعتقدوا أنه منزه عنه ، ، فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن استوائه على عرشه وبعلوه على خلقه ، وتكلمه بالقرآن حقيقة ، وإثبات الوجه واليد والعين له ، ما لا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم والعبث ; والفعل لا لحكمة ، والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال ، وتراهم إذا أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم ; وإذا نفوا نفوا نفيا مفصلا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة . ويبالغون في تنزيهه عما وصف به نفسه
فهذا وأضعاف أضعافه المعطلة ، ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج له ولا تشتاق إليه ، ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم ، صرحوا بذلك كله ، وقالوا : هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم ، قالوا : وإرادته ومحبته محال ، لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود ، والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين القديم والمحدث . من لوازم قول
ومن لوازمه أعظم العقوق لأبيهم آدم ، فإن من خصائصه أن الله لم يخلقه بيده ، فقالوا : إنما خلقه بقدرته ، فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه ، ومن لوازمه بل صرحوا به جحدهم خلة إبراهيم الخليل ، وقالوا : هي حاجته وفقره وفاقته إلى الله ، فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق ، إذ كل أحد فقير إلى الله بالذات وإن غاب شعوره بفقره عن قلبه أحيانا ، فهو يعلم أنه فقير إليه في كل نفس وطرفة عين ، ومن لوازمه بل صرحوا به أن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما ، وإنما خلق كلاما [ ص: 189 ] في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته ، لا يصدق الجهمي بهذا أبدا .
ومن لوازمه بل صرحوا به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله حقيقة ، ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأله التخفيف لأمته ، فإن : من وإلى عندهم في حق الله تعالى محال ، فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء .
ومن لوازمه أن الله تعالى لن يفعل شيئا ولا يفعل شيئا ، فإن الفعل عندهم عين المفعول ، وهو غير قائم بالرب ، فلم يقم به عندهم فعل أصلا ، وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به ، كما سموه مريدا من غير إرادة تقوم به ، وسموه متكلما من غير كلام يقوم به ، وسماه زعيمهم المتأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقوم به حيث قال : العلم هو المعلوم ، كما قالوا : الفعل هو المفعول .
، فإذا ذلك من مقولة : أن ينفك ، وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال ، كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه بكون ذلك من مقولة الأين وهي ممتنعة عليه ، كما نفوا استواءه على عرشه ، لأن ذلك من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له ، ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه . ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر ، ولا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب ولا يبغض
الوجه الثاني والأربعون : أن هؤلاء بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك بها في العلم واليقين . المعارضين للوحي
قال الرازي في نهايته : الفصل السابع وهي أربع : نذكر نفي الشيء انتفاء دليله ، وذكر القياس ، وذكر الإلزامات ، ثم قال : الرابع : هو التمسك بالسمعيات ، وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة ، وأخذ في تقرير ذلك فقال : المطالب على أقسام ثلاثة : منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع ، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا السمع ، ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى . في تزييف الطرق الضعيفة
قال : أما القسم الأول ، وكونه مختارا وعاليا بكل المعلومات وصدق الرسول ، قال : وأما القسم الثاني فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع من قبل العلم بوجود الصانع ، فإن حصول غراب على قمة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدل مطلقا ، وليس هناك ما يقتفى وجوب أحد طرفيه أصلا ، وهو غائب عن الحس والنفس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق . فهو ترجيح أحد طرفي الممكن [ ص: 190 ] على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه شيء من حواسه
وأما القسم الثالث فهو الذي يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها ، مثل مسألة الرؤية والصفات ، الوحدانية وغيرها ، ثم عدد أمثلة . معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات ، واستحالة المستحيلات
ثم قال : إذا عرفت ذلك فنقول ، أما إن في القسم الأول فهو ظاهر ، وإلا وقع الدور ، وإما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف ، وأما الثالث فنفي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال ، وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي ، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي ; فإما أن يؤول النقل ، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل ، فحينئذ تكون صحة النقل متفرقة على ما يجوز فساده وبطلانه ، فإذا لا يكون العقل مقطوع الصحة ، فإذا تصحيح النقل يرد العقل ويتضمن القدح في النقل ، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا ، وتعين تأويل النقل ، فإذا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أم لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره ؟ فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا تبين أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ، ولا سبيل لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين : إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي ، وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلة غير محتاج إليه ، وإما بأن نتزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل ، وذلك ضعيف ، لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه إلا أن يكون هنالك معارض أصلا ، إلا أن نقول : إنه لا دليل على هذه المعارضات ، فوجب نفيه ، لكنا زيفنا هذه الطريقة ، يعني انتقاء الشيء لانتفاء دليله ، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى ، وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن له كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر . الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول
[ ص: 191 ] فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي ، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على مقدمة غير يقينية ، وهي عدم دليل عقلي ، وكل ما تنبئ صحته على ما لا يكون يقينا لا يكون هو أيضا يقينا ، فثبت أن الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين .
قال : وهذا بخلاف فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى منها بأن لا يعلم فسادها ، بل لا بد وأن يعلم بالبديهة صحتها ، إذ يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ، ومتى كان ذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية . الأدلة العقلية
ثم قال : فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء ، فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك شيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل ، وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز ، قلنا : هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح ، وأنه يجب على الله سبحانه شيء ، ونحن لا نقول بذلك سلمنا ذلك ، فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي ; وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك ، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فتقدير أن يكون الأمر كذلك ، لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر ، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرناه كان ذلك التقصير واقعا من المكلف ، لا من قبل الله تعالى ، حيث قطع لا في موضع القطع ، فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون مكلفا ملبسا ، قال : فخرج بما ذكرنا أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية ، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد ، وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية . اهـ كلامه .
فليتدبر المؤمن هذا الكلام أوله على آخره وآخره على أوله ، ليتبين له ما ذكرناه عنهم من ، وما يجب له وما يمتنع عليه ، وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل ، وإن الله تعالى يجوز عليه التدليس على الخلق وتوريطهم في طرق [ ص: 192 ] الضلال ، وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال ، وإن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته ، ونطقوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك ، أو قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه ، وإن غاية ما يمكن بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غرابا صفته كيت وكيت ، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد ، وإن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة ، ومقدمات أدلة العزل التام للقرآن والسنة من أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله أرسطو صاحب المنطق والفارابي وإخوانهم قطعية معلومة الصحة ، وإنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة ، لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه ، وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضلة لا يحتاج إليها ، بل هي مستغنى عنها إذا كان موافقا للعقل . وابن سينا
فتأمل على البناء الذي بنوه ، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدما منه لقواعد الدين ، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين ؟ وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل ; وعند جميع أهل الملل .
وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هي قليل من كثير مما يدل على بطلانه ، ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل أنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي .
الوجه الثالث والأربعون : ، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركبه فيهم من العقل ، وأن ما أنزل إليهم من السمع ما لا يدفعه العقل ، فإن العقل الصريح لا يتناقض في نفيه ، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه ، وكذلك العقل مع السمع ، فحجج الله وبينته لا تتناقض ولا تتعارض ولكن تتوافق وتتعاضد ، وأنت لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ، وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض فيها السمع بالمعقول ، ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه فنقول : قالت الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر ، معطلة الصفات : صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه ، وقيام المعجزة الدالة على صدقه [ ص: 193 ] موقوف على العلم بأن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة الدالة على صدقه ، والعلم بذلك موقوف على العلم بقبحه ، وعلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح ; وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه غني عنه عالم بقبحه ، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله ; وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم ; وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به ; وهي الصفات والأفعال ، ونفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الأجسام ; والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ، وما لا تخلو عن الحوادث لا يسبقها ، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين ، فهي حادثة ، فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها ، وأيضا فإن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة ; والمركب مفتقر إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا ، فالأجسام متماثلة ، كل ما صح على بعضها صح على جميعها ، وقد صح على بعضه التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها . أن السمع حجة الله على خلقه ; وكذلك العقل
قالوا : وبهذا الطريق أثبتنا ، فلو بطل الدليل الدال على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على ثبوت الصانع وصدق الرسول ، فصار العلم بثبوت الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفا على نفي الصفات ، فإذا جاء السمع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يكن القول بموجبه ; ويعلم أن الرسول لم يرد إثبات ذلك ، لأن إرادته للإثبات تنافي تصديقه ، ثم إما إن كان يكذب الناقل ، وإما أن يتأول المنقول ، وإما أن يعرض عن ذلك جملة ويقول لا يعلم المراد . حدوث العالم ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد
فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم ، ولم يقيض لهم من يبين لهم فساد هذا الأصل ومخالفته لصريح العقل ، بل قيض لهم من المنتسبين إلى السفه من وافقهم عليه ، ثم أخذ يشنع عليهم ، وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ، فأضحكهم عليه وأغراهم به ، ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله ، والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء ونفيهم ، وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل ثم تكفيرهم وتبديعهم . القول بنفي الصفات والأفعال وتكليم الرب لخلقه ورؤيتهم له في الدار الآخرة
وهذا الطريق ، من الناس من يظنها من لوازم الإيمان ، وأن الإيمان لا يتم إلا بها ، [ ص: 194 ] ومن لم يعرف ربه بهذه الطريق لم يكن مؤمنا به ولا بما جاء به رسوله ، وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشعرية بل أكثرهم ، وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة ، وكثير من أهل الحديث والصوفية ، ومن الناس من يقول : ليس الإيمان موقوفا عليها ولا هي من لوازمه ، وليست طريق الرسل ، ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وإن لم يعتقد بطلانها ، وهذا قول نفسه ، فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر ، وبين أنها طريق خطرة مذمومة محرمة وإن كانت غير باطلة ، ووافقه على هذا جماعة من أصحابه من أتباع الأئمة . أبي الحسن الأشعري
وقالت طائفة أخرى : بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما أثبته ، وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية ، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد ، فإن هذه الطريق لا تتم لا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه ، فضلا عن نفي علوه على خلقه ، ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها ، ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئا البتة ، إذ لم يقم به فعل فاعل ، وفاعل بلا فعل محال في بدائه العقول ، فلو صحت هذه الطريق نفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له ، وما يثبته أصحاب هذه الطريق من ذلك لا حقيقة له ، بل هو لفظ لا معنى له ، فأنتم تثبتون ذلك وتصرخون بنفي لوازمه البينة التي لا عيب فيها وفي لزومها ، وتثبتون ما لا حقيقة له ، بل يخالف العقول ، كما تنفون ما يدل العقل الصريح على إثباته ، ولوازمه الباطلة أكثر من مائة لازم ، بل لا يحصى بكلفة .
فأول لوازم هذه الطريقة ، ومن لوازمها نفي الصفات والأفعال ، ونفي العلو والكلام ، ونفي الرؤية ، وبهذه الطريق استجازوا ضرب القول بخلق القرآن لما قال بما يخالفها من إثبات الصفات وتكلم الله بالقرآن ورؤيته في الدار الآخرة ، وكان أرباب هذه الطريق هم المستولين على الخليفة ، فقالوا له : اضرب عنقه ، فإنه كافر مشبه مجسم ، فقيل له : إنك إن قتلته ثارت عليك العامة ، فأمسك عن قتله بعد الضرب الشديد . الإمام أحمد
ومن لوازمه أن الرب كان معطلا عن الفعل من الأزل والفعل ممتنع عليه ، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بدون موجب في ذلك الوقت دون ما قبله ، وهذا ورأوا أنه خير من القول بذلك ، بل حقيقة هذا [ ص: 195 ] القول أن الفعل لم يزل ممتنعا منه أزلا وأبدا ، إذ يستحيل قيامه به ، وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه بفناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم عدما محضا ، وعنها قال أبو الهذيل العلاف بفناء حركاتهم دون ذاتهم ، فإذا رفع اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك ويبقى كذلك أبد الآبدين ، وعن هذه الطريق قالت مما أغرى الفلاسفة بالقول بقدم العالم الجهمية : إن الله في كل مكان بذاته ، وقال إخوانهم : إنه ليس في العالم ، ولا خارج العالم ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محايثا له ، ولا فوقه ولا خلفه ، ولا أمامه ، ولا وراءه ، وعنها قال من قال : إن ما نشاهده عن الأعراض الثابتة كالألوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل نفس ولحظة ويخلفها غيرها ، حتى قال من قال : إن الروح عرض وإن الإنسان يستحدث في كل ساعة عدة أرواح ، تذهب له روح ويجيء غيرها ، وعنها قال من قال : إن جسم أنتن الرجيع وأخبثه مماثل لجسم أطيب في الحد والحقيقة ، لا فرق بينهما إلا بأمر عرضي ، وأن جسم النار مساو لجسم الماء في الحد والحقيقة ، وعنها قالوا : إن الروائح والأصوات والمعارف والعلوم تؤكل وتشرب وترى وتسمع وتلمس ، وأن الحواس الخمس تتعلق بكل موجود ، وعنها نفوا عنه تعالى الرضى والغضب والمحبة والرحمة ، والرأفة والضحك والفرح ، بل ذلك كله إرادة محضة أو ثواب منفصل مخلوق ، وعنها قالوا : إن الكلام معنى واحد بالعين ، لا ينقسم ولا يتبعض ، ولا له جزء ولا كل ، وهو الأمر بكل شيء مأمور ، والنهي عن كل مخبر عنه ، وكذلك قالوا في العلم : إنه أمر واحد ، فالعالم بوجود الشيء هو عين العالم بعدمه لا فرق بينهما البتة بالتعلق ، وكذلك قالوا : إن إرادة إيجاد الشيء هي نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادة ، كذلك رؤية زيد هي نفس رؤية عمرو ، ومعلوم أن هذا لا يعقل ، بل هو مخالف لصريح العقل .
ومن العجب أنهم لم يثبتوا بها في الحقيقة صانعا ولا صفة من صفاته ولا فعلا من أفعاله ولا نبوة ولا مبدأ ولا معادا ولا حكمة ، بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحا ولزوما بينا .
وجاء آخرون فراموا إثبات الصفات والأفعال وموافقتهم في هذه الطريق ، فتجشموا أمرا ممتنعا واشتقوا طريقة لم يمكنهم الوفاء بها ، فجاءوا بطريق بين النفي والإثبات لم يوافقهم فيها المعطلة النفاة ، ولم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات ، وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين المعقول والمنقول ، ويصلون في هذه الطريق إلى تصديق الرسول ، وصار [ ص: 196 ] كثير من الناس يحب النظر والبحث والمعقول ، وهو مع ذلك يريد أن لا يخرج عما جاء به الرسول ، ثم أصلوا تأصيلا مستلزما لبطلان التفصيل ، ثم فصلوا تفصيلا على بطلان الأصل فصاروا حارثين بين التأصيل والتفصيل ، وصار من فرد منهم هذا الأصل خارجا عن العقل والسمع بالكلية ، ومن لم يطرده متناقضا مضطرب الأقوال ، وقد سلك الناس في إثبات الصانع وحدوث العالم طرقا متعددة سهلة قريبة إلى المقصود ، لم يتعرضوا فيها لطريق هؤلاء بوجه .
قال الخطابي : وإنما سلك المتكلمون هذه الطريقة في مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم ، وفي الأعراض اختلاف كثير ، منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسا ، ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بنفسها كالجواهر . الاستدلال بالأعراض
قلت : ومنهم من يقول بكمونها وظهورها ، ومنهم من يقول بعدم بقائها ، ثم سلك طرقا في إثبات الصانع منها الاستدلال بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته ، والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام العلوية وغير ذلك ، ثم قال : والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلا بعد استبراء هذه الشبهة ، وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب .
قال : وقد سلك بعض مشايخنا في هذه الطرق الاستدلال بمقدماتها النبوة ومعجزات الرسالة التي دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ، ومن طريق استفاضة الخير لمن غاب عنها ، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال : وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه لإدراك وجوه الأدلة ، ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .