الوجه الثامن والأربعون : إن من أعجب العجب أن هؤلاء على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنه لا يمكنهم إثبات [ ص: 205 ] الصانع إلا بنوع من التشبيه والتمثيل ، كما قال الذين فروا من القول بعلو الله واستوائه في مسألة حدوث الأجسام ، لما ذكر شبه القائلين بالقدم ، قال : الوجه العاشر : الآمدي ، فإن كان الأول فهو حادث ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل الممتنع ، وإن كان الثاني فالمحدث له ليس بموجود ، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه ، وهو خلاف الفرض ، وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون مفيدا للوجود ، وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا ، والكلام فيه كالأول ، وهو التسلسل المحال ، وهذه المجالات إنما نشأت من القول بكونه محدثا للعالم . لو كان حدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه ، أو مخالفا له من كل وجه ، أو مماثلا له من وجه مخالفا له من وجه
قال : والجواب عن هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الثالث ، ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا ، بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القدم والحدوث ، وإنما تماثلا بأمر آخر ، وهذا كالسواد والبياض يختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه ، وإلا لما اشتركا في العرضية والكونية والحدوث ، ولاستحالة تماثلهما من كل وجه ; وإلا كان السواد بياضا ; ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية .
فيقال : يا لله العجب : هلا قبلتم هذا الجواب في إثبات ، وأجبتم بهذا الجواب من قال لكم من علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وإثبات صفات كماله كلها المعطلة والنفاة : لو كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات ؟ ولم لا تقنعون من أهل السنة المثبتين لصفات كماله بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم ؟ بل إذا أجابوكم به قلبتم لهم ظهر المجن وصرحتم بتكفيرهم وتبديعهم ، وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم موحدين .
يقال : فإن قلتم بالثاني كان هذا إنكارا له وجحودا ; أو جعله وجودا مطلقا لا ملكية له ، وإن قلتم : بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الذوات والماهيات ، قيل [ ص: 206 ] لكم : فماهيته وذاته غير متناهية بل ذاهبة في الأبعاد إلى غير نهاية أم متناهية ؟ فإن قلتم بالأول لزم منه محالات غير واحدة ، وإن قلتم بالثاني بطل المباينة والجهة ، وهذا لا محيد عنه ، وإن قلتم : لا نقول له ماهية ولا ليست له ماهية قيل : لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلا هذا المحال والباطل ، وإن قلتم : بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الماهيات ولا غير متناهية ، لأنها لا تقبل واحدا من الأمرين ، وقيل : يتقابلان تقابل السلب والإيجاب ، فلا واسطة بينهما ، كما لا واسطة بين الوجود والعدم ، والقدم والحدوث ، والسبق والمقارنة ، والقيام بالنفس والقيام بالغير ، وتقدير قسم آخر لا يقبل واحدا من الأمرين تقدير ذهني يفرضه الذهن كما يفرض سائر المحالات ، ولا يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه ، قال : التقسيم يقتضي أن المعلوم إما قديم وإما حادث ، وإما لا قديم ولا حادث ، كان التقسيم ذهنيا لا خارجيا ، وإن سلب النقيض في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين ؟ هل للرب ماهية متميزة عن سائر الماهيات يختص بها لذاته ، أم تقولون لا ماهية له ؟
فصل : ، فإن كانت قابلة وجب وجود القبول لأنه صفة كمال ، لأن قبولها لذلك هو من لوازمها ، كقبول الذات للعلم والحياة والقدرة والسمع ، فوجدوا هذا إلزاما للذات ضرورة ، ولأنها إذ قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت بضده ، وهو نقص يتعالى الله ويتقدس عنه ، وإن لم تكن قابلة للعلو لزم أن يكون قابل العلو أكمل منها ، لأن ما يقبل أن يكون عاليا ، وإن لم يكن عاليا أكمل ممن لا يقبل العلو وما قبله وكان عاليا أكمل ممن قبله ولم يكن عاليا ، فالمراتب ثلاثة : أدناها ما لا يقبل العلو وأعلاها ما قبله واتصف به ، والذي يوضح ذلك : أن ما لا يقبل أن يكون فوق غيره ولا عاليا عليه إما أن يكون عرضا من الأعراض لا يقوم بنفسه ، ولا يقبل أن يكون عاليا على غيره ، وإما أن يكون أمرا عدميا لا يقبل ذلك ، وأما إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل ، ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها ، فهذا بإمكان تصوره قبل التصديق بوجوده وليس مع من ادعى إمكانه إلا الكليات ، وكلاهما وجوده ذهني لا وجود له في الخارج وإلا فما له وجود [ ص: 207 ] خارجي ، وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر الذوات موصوف بصفات الحي الفعال لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات ذهنية لا أمور خارجية ، وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو في الأذهان لا في الأعيان . يقال : ذاته سبحانه ; إما أن تكون قابلة العلو على العالم ، أو لا تكون قابلة