فصل : الجهمية المعطلة معترفون بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو القدر ، وأن ذلك كمال لا نقص ، وأنه من لوازم ذاته ، فيقال : ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه ، وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلوم ، فأحد الأمرين لازم لكم ولا بد ، إما أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل وجه ذاتا وقهرا وقدرا ، وإما أن تنفوا ذلك كله ، فإنكم إنما نفيتم علو ذاته سبحانه بناء على لزوم التجسيم ، وهو لازم فيما أثبتموه من وجهي العلو ، فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرا من غيرها ، إن لم يعقل كونه غير جسم لزمكم التجسيم ، وإن عقل كونها غير جسم فكيف لا يعقل أن تكون الذات العالية على سائر الذوات غير جسم ؟ وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم من ذلك العلو ؟
فإن قلتم : لأن هذا العلو يستلزم تميز شيء عن شيء منه قيل لكم : في الذهن أو في الخارج ; فإن قلتم : في الخارج ، كذبتم وافتريتم وأضحكتم عليكم العقلاء ، وإن قلتم في الذهن ، فهو للإلزام لكل من أثبت للعالم ربا خالقا ، ولا خلاص من ذلك إلا بإنكار وجوده رأسا .
يوضحه أن الفلاسفة لما أوردوا عليكم هذه الحجة بعينها في نفس الصفات أجبتم عنها بأن قلتم : واللفظ للرازي في نهايته ، فقال : قوله : يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية ، فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا : إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم احتياج تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها ، وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة بذلك مما يلزمه ، فأين المحال ؟ قال : وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج ، فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات ، قال : ومما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا : إن الله عالم بالكليات ، وقالوا : إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وقالوا : إن صورة المعلومات موجودة [ ص: 208 ] في ذات الله ; حتى قال : إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من لوازم الذات ، ومن كان هذا مذهبا له ، كيف يمكنه أن ينكر الصفات ؟ قال : وفي الجملة فلا ابن سينا الصفاتية وبين الفلاسفة ، لأن فرق بين الصفاتية يقولون : إن الصفات قائمة بالذات ، والفلاسفة يقولون : هذه الصفات صور عقلية عوارض متقومة بالذات ، والذي يسميه الصفاتي صفة يسميه الفلسفي عارضا ، والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفيلسوف قواما ومقوما ، ولا فرق إلا في العبارات ، وإلا فلا فرق في المعنى ، هذا لفظه .
فيقول له مثبتو العلو : هلا قنعت منا بهذا الجواب بعينه حتى قلت : يلزم من علوه أن يتميز منه شيء عن شيء ، ويلزم وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية ، وتكون قد وافقت السمع ونصوص الأنبياء وكتب الله كلها وأدلة العقول والفطر الصحيحة وإجماع أهل السنة قاطبة ؟
فصل : هذه الحجة العقلية القطعية وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه كونه مباينا للعالم ، وذلك ملزوم لكونه فوقه عاليا عليه بالذات ، لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها ، وكانت مما ناظر بها الكرامية أبا إسحاق الإسفرائيني أبو إسحاق إلى كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول ، وقال : لا نسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني من المحل ، فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا ، وهذا لازم لسائر المعطلة النفاة لعلوه ، ومن المعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره ، وإذا كان قيام العرض بغيره يمتنع أن يكون أمرا عدميا بل وجوديا ، فقيام الشيء بنفسه أحق ألا يكون أمرا عدميا بل وجوديا ، وإذا كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمال وهو مفتقر بالذات إلى غيره فقيام الغني بذاته بنفسه أحق وأولى .
[ ص: 209 ] فصل : القيام بالنفس صفة كمال ، فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه ، ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته ، وهذه حقيقة قيوميته سبحانه ، وهو الحي القيوم ، ، فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد أنكر قيوميته وأثبت له قياما بالنفس يشاركه فيه العدم المحض ، بل جعل قيوميته أمرا عدميا لا وصفا ثبوتيا ، وهي عدم الحاجة إلى المحل ، ومعلوم أن المحل لا يحتاج إلى محل . والقيوم القيوم بنفسه المقيم لغيره
وأيضا فإنه يقال له : ما تعني بعدم الحاجة إلى المحل ؟ أتعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه الذي يفارق به العرض القائم بغيره ، أم تعني به أمرا آخر ؟ فإن عنيت به الأول فهو المعنى المعقول ، والدليل قائم والإلزام صحيح ; وإن عنيت به أمرا آخر فإما أن يكون وجوديا ; وإما أن يكون عدميا ، فإن كان عدميا والعدم لا شيء كاسمه ، فتعود قيوميته سبحانه إلى لا شيء ؟ وإن عنيت به أمرا وجوديا غير المعقول الذي تعقله الخاصة والعامة فلا بد من بيانه لينظر فيه ، هل يستلزم المباينة أم لا ؟
فصل : كل من أقر بوجوب رب للعالم مدبر له ، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم ، وكل من أنكر مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطله ، فهاتان دعويان في جانب النفي والإثبات ; أما الدعوى الأولى فإنه أولا أقر بالرب ، فإما أن يقر بأن له ذاتا وماهية مخصوصة أو لا ؟ فإن لم يقر بذلك لم يقر بالرب ، فإن ربا لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء ، وإن أقر بأن له ذاتا مخصوصة وماهية ، فإما أن يقر بتعيينها أو يقول إنها غير معينة ؟ فإن قال : إنها غير معينة كانت خيالا في الذهن لا في الخارج ، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معين ، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين ، فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها وأن يوجد لها نظير ، فتعيين ذاته سبحانه واجب ، وإذا أقر بأنها معينة لا كلية ، والعالم المشهود معين لا كلي ، لزم قطعا مباينة أحد المتعينين للآخر ، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه .
فإن قيل : هو يتعين بكونه لا داخلا فيه ولا خارجا عنه ، قيل : هذا والله حقيقة قولكم ; وهو عين المحال ، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه ، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة ، وأنتم إنما جعلتم تعينه بأمر عدمي محض ونفي صرف ، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه ، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض ، وأيضا فالعدم المحض لا يعين المتعين ، فإنه لا شيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته ، فلزم قطعا من إثبات [ ص: 210 ] ذاته تعين تلك الذات ; ومن تعينها مباينتها للمخلوقات ، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره وصح مقتضى العقل وبالنقل والفطرة ، ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية ، وهي أن من أمكن مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إمكان ربوبيته وكونه إلها للعالم .