فصل
وأما قوله في حديث : " ابن مسعود " فعند أهل السنة الجميع قضاؤه والجميع عدل منه في عبده ، لا بمعنى كونه متصرفا فيه بمجرد القدرة والمشيئة ، بل بوضع القضاء في موضعه وإصابة محله ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أما العقوبات والمصائب فالأمر فيها ظاهر ، إذ هي عدل محض كما قال تعالى : ( فكل ما قضاه على عبده فقد وضعه موضعه اللائق به وأصاب به محله الذي هو أولى به من غيره فلم يظلمه به وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) .
[ ص: 238 ] وأما الآلام التي تصيب العبد بغير ذنب ، كالآلام التي تنال غير المكلفين كالأطفال والمجانين والبهائم ، فقد خاض الناس في أسبابها وحكمها قديما ، وحديثا وتباينت طرقهم فيها بعد اتفاقهم على أنها عدل ، وإن اختلفوا في وجه كونها عدلا فالجبرية تثبت على أصولها في أن كل واقع أو ممكن عدل ، والقدرية جعلت وجه كونه عدلا ، وقوعها بسبب جرم سابق أو عوض لاحق ، ثم منهم من يعتبر مع ذلك أن يشتمل على غيره ، قالوا فوقوعها على وجه العقوبة بالجرم والتعويض بخروجها عن كونها ظلما ، وبقصد العبرة تخرج كونها سفها ، وأما الفلاسفة فإنهم جعلوا ذلك من لازم الخلقة فيه ومقتضيات النشأة الحيوانية ، وقالوا : ليس في الإمكان إلا ذلك ، ولو فرض غير ذلك لكان غير هذا العالم ، فإن تركيب الحيوان الذي يكون ويفسد يقتضي أن تعرض له الآلام كما يعرض له الجوع والعطش والضجر ونحوها ، وقالوا : رفع هذا بالكلية إنما يكون برفع أسبابه ، والخبر الذي في أسبابه أضعاف أضعاف الشر الحاصل بها ، فاحتمال الشر القليل الجزئي في جنب المصلحة العامة الكلية أولى من تعطيل الخير الكثير لما يستلزمه من المفسدة اليسيرة الجزئية ، قالوا : ومن تأمل أسباب الآلام وجد ما في ضمنها من الملذات والخيرات والمصالح أضعاف أضعاف ما في ضمنها من الشرور ، كالحر والبرد والمطر والثلج والريح وتناول الأغذية والفواكه وأنواع الأطعمة ، وصنوف المناكح ، وأنواع الأعمال والحركات ، فإن الآلام إنما تتولد غالبها عن هذه الأمور مصالحها ولذتها وخيراتها أكثر من مفاسدها وشرورها وآلامها .
وهذه الطرق الثلاثة سلكها طوائف من المسلمين ، وفي كل طريق منها حق وباطل ، فإذا أخذت من طريق حقها ورميت باطلها كنت أسعد الناس بالحق ، وأصحاب المشيئة المحضة أصابوا في إثبات عموم المشيئة والقدرة ، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بمشيئته ، فخذ من قولهم هذا القدر وألق منه إبطال الأسباب والحكم والتعليل ومراعاة مصالح الخلق ، والقدرية أصابوا في إثبات ذلك وأخطئوا في مواضع : أحدها : إخراج أفعال عباده عن ملكه وقدرته ومشيئته ، الثاني : تعطيلهم عود الحكمة والغاية المطلوبة إلى الفاعل ، وإنما أثبتوا أنواع حكمة تعود إلى المفعول لا إلى الفاعل ، الثالث : أنهم شبهوا الله بخلقه فيما يحسن منهم وما يقبح فقاسوه في أفعاله على خلقه ، واعتبروا حكمته بالحكمة التي لعباده ، فخذ من قولهم إنه حكيم لا يفعل إلا لمصلحة وحكمة ، وأنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه ، بل تنزه عنه لغناه وكماله ، وأنه لا يعاقب [ ص: 239 ] أحدا بغير ذنب ولا يعاقبه بما لا يفعله ، فضلا عن أن يعاقبه بفعل هو فعله فيه أو فعل غيره فيه ، وأنه جعل الأسباب مقتضيات لغاياتها ، وألق من قولهم إنكارهم خلقه لأفعال عباده ، وإنكار عود الحكمة إليه وقياس أفعاله على أفعال عباده .
والفلاسفة فيما أصلوه من أن تعطيل أسباب الخيرات والمصالح العظيمة لما في ضمنها من الشرور والآلام الجزئية مناف للحكمة ، فهذا أصل في غاية الصحة لكن أخطئوا في ذلك أعظم خطأ ، وهو جعلهم ذلك من لوازم الطبيعة المجردة من غير أن تكون متعلقة بفاعل مختار قدر ذلك بمشيئته وقدرته واختياره ، ولو شاء لكان الأمر على خلاف ذلك كما يكون في الجنة ، فإنها مشتملة على الخيرات المحضة البريئة من هذه العوارض من كل وجه ، فاقتضت حكمته أن تكون هذه الدار على ما هي عليه ، ممزوجا خيرها بشرها ، ولذاتها بآلامها ، وأن تكون دار القرار خالصة من شوائب الآلام والشرور خلاصا تاما ، وأن تكون دار الشقاء خالصة للآلام والشرور ، وإذا جمعت حق هذه الطائفة وأثبت تعالي صفات الكمال ، وأنه يحب ويحب ، ويفرح بتوبة عباده وطاعتهم ويرضى بها ويضحك ويثني عليهم بها ، ويحب أن يثنى عليه ويحمد ويشكر ، ويفعل ما له في فعله غاية وحكمة يحبها ويرضاها ، فيفعل لأجلها ، كنت أسعد بالحق من هؤلاء .