الوجه الثاني عشر : أنه كما قيد الغضب الشديد بذلك اليوم قيد العذاب المرتب عليه به كما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=65فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=37ويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) فجعل العذاب والمشهد واقعين في ذلك اليوم العظيم ، بل جعل العذاب يوم العذاب أبدا .
nindex.php?page=treesubj&link=30431ولا يقال في الشيء الأبدي الذي لا يفنى ولا يبيد : إنه عمل يوم ، وطعام يوم ، وعذاب يوم ، ولم ينتقص هذا بقوله سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=38ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ) ولا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=19إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ) فإن استقراره واستمراره لا يقتضي أبديته لغة ولا عرفا ولا عقلا ، وقد أخبر سبحانه عن بطن الأم أنه مستقر الجنين بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5ونقر في الأرحام ما نشاء ) وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=98وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) سواء كان المستقر صلب الأب والمستودع بطن الأم أو عكس ذلك ، أو دار الدنيا ودار البرزخ ، كما هي أقوال المفسرين في الآية ، فالمستقر لا يدل على أنه أبدي ، وكذلك المستمر لا يدل على الأبدية .
فاستقرار كل شيء واستمراره ودوامه وخلوده وثباته بحسب ما يليق به من البقاء والإقامة ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=23لابثين فيها أحقابا ) وهذا لا يقال في لبث لا انتهاء له ، وتأويل الآية عند من
[ ص: 273 ] تأولها أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا : لا يفيدهم شيئا ، فإنه يلزم على تأويله أنهم يذوقون البرد والشراب بعد مضي تلك الأحقاب ، ومتى ذاقوا البرد والشراب انقطع عنهم العذاب .
الوجه الثالث عشر : أنه سبحانه وتعالى
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443يذكر نعيم أهل الجنة فيصفه بأنه غير منقطع ، وأنه ما من نفاد ، يذكر عقاب أهل النار ثم يخبر معه أنه فعال لما يريد أو يطلقه ، فالأول كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=106فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=107خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) وأما الثاني فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=49هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=50جنات عدن مفتحة لهم الأبواب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=51متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=52وعندهم قاصرات الطرف أتراب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=53هذا ما توعدون ليوم الحساب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=54إن هذا لرزقنا ما له من نفاد nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=55هذا وإن للطاغين لشر مآب nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=56جهنم يصلونها فبئس المهاد ) إلى قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=64إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) ولم يقل فيه ما قاله في النعيم .
وقريب من هذا أنه سبحانه وتعالى يذكر خلود أهل النعيم فيه ، فيقيده بالتأبيد ، ويذكر معه خلود أهل العذاب ، فلا يقيده بالتأبيد ، بل يطلقه ، وهذا كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=6إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=8جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) .
ولا ينتقض هذا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) فإن تأبيد الخلود فيها لا يستلزم أبديتها ودوام بقائها ، بل يدل على أنهم خالدون فيها أبدا ما دامت كذلك ، فالأبد استمرارهم فيها ما دامت موجودة ، وهو سبحانه لم يقل : إنها باقية أبدا ، وفرق بين الأمرين فتأمله .
على أن التأبيد قد جاء في القرآن فيما هو منقطع ، كقوله عن
اليهود : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=95ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم )
[ ص: 274 ] وهذا إنما هو أبد مدة حياتهم في الدنيا ، وإلا فهم في النار يتمنون الموت حين يقولون (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77يامالك ليقض علينا ربك ) وقول العرب : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أتزوج أبدا ، أشهر من أن تذكر شواهده ، وإنما يريدون مدة منقطعة ، وهي أبد الحياة ومدة عمرهم ، فهكذا الأبد في العذاب هو أبد مدة بقاء النار ودوامها .
الوجه الرابع عشر : أنه
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443لو كانت دار الشقاء دائمة دوام دار النعيم ، وعذاب أهلها فيها مساويا لنعيم أهل الجنة بدوامه لم تكن الرحمة غالبة للغضب بل يكون الغضب قد غلب الرحمة ، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء ملزومه ، والشأن في بيان الملازمة ، وأما انتفاء اللازم فظاهر ، وقد دل عليه الحديث المتفق على صحته من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347271لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب " وبيان الملازمة أن المعذبين في دار الشقاء أضعاف أهل النعيم ، كما ثبت في الصحيح "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347272إن الله تعالى يقول : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : إن الله يأمرك أن تبعث من ذريتك بعث النار ، فيقول : ربي ، وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة " فقال الصحابة : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟ فقال : " إن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج " .
فعلى هذا أهل الجنة عشر عشر أهل النار ، وإنما دخلوها بالغضب ، فلو دام هذا العذاب دوام النعيم وساواه في وجوده لكانت الغلبة للغضب ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الرحمة هي الغالبة فإن غلبتها تقتضي نقصان عدد المعذبين أو مدتهم .
يوضحه الوجه الخامس عشر : أن
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443الله تعالى جعل الدنيا مثالا وأنموذجا وعبرة لما أخبر به في الآخرة ، فجعل آلامها ولذاتها وما فيها من النعيم والعذاب وما فيها من الثمار والحرير ، والذهب والفضة والنار تذكرة ومثالا وعبرة ، ليستدل العباد بما شاهدوه على ما أخبروا به ، وقد أنزل في هذه الدار رحمته وغضبه ، وأجرى عليهم آثار الرحمة والغضب ، ويسر لأهل الرحمة أسباب الرحمة ، ولأهل الغضب أسباب الغضب ، ثم
[ ص: 275 ] جعل سبحانه الغلبة والعافية لما كان عن رحمته ، وجعل الاضمحلال والزوال لما كان عن غضبه فلا بد من حين قامت الدنيا إلى أن يرثها الله ومن عليها أن تغلب آثار غضبه ولو في العاقبة ، فلا بد أن يغلب الرخاء الشدة ، والعافية البلاء ، والخير وأهله الشر وأهله ، وإن أديلوا أحيانا فإن الغلبة المستقرة الثابتة للحق وأهله ، وآخر أمر المبطلين الظالمين إلى زوال وهلاك ، فما قام للشر والباطل جيش إلا أقام الله سبحانه للحق جيشا يظفر به ويكون له العلو والغلبة ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=171ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=172إنهم لهم المنصورون nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=173وإن جندنا لهم الغالبون ) فكما غلبت الرحمة غلبت جنودنا ، وإذا كان هذا مقتضى حمده وحكمته في هذه الدار ، فهكذا في دار الحق المحض تكون الغلبة لما خلق بالرحمة والبقاء لها .
وسر هذا الوجه وما يتصل به أن الخير هو الغالب للشر ، وهو المهيمن عليه ، الذي لو دخل جحر ضب لدخل خلفه حتى يخرجه ويغيره ، وإذا كانت للشر دولة وصولة لحكمة مقصودة لغيرها قصد الوسائل ، فالخير مقصود مطلوب لنفسه قصد الغايات .
الوجه السادس عشر : أنه
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443_30444قد ثبت في الصحيح أن الجنة يبقى فيها فضل ، فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها بغير عمل كان منهم ، محبة منه للجود والإحسان والرحمة ، فإذا كان وجوده ورحمته قد اقتضيا أن يدخل هؤلاء الجنة بغير تقدم عمل منهم ولا معرفة ولا إقرار ، فما المانع أن تدرك رحمته من قد أقر به في دار الدنيا ، واعترف بالله ربه ومالكه ، واكتسب ما أوجب غضبه عليه ، فعاقبه بما اكتسبه ، وعرفه حقيقة ما اجترحه وأشهده أنه كان كاذبا مبطلا ، وأن رسله هم الصادقون المحقون ، فشهد ذلك وأقر على نفسه وتقطعت نفسه حسرة وندما ، وأخرجت النار منه خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد .
ولا يقال : الخبث لا يفارقهم والإصرار لا يزول عنهم ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) فإن هذا ليس في حكم الطبيعة الحيوانية ، ولهذا في الدنيا لما يمسهم العذاب تجد عقدة الإصرار قد انحلت عنهم وانكسرت نخوة الباطل ولكن لم تظهر قلوبهم بذلك وحده .
[ ص: 276 ] وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) فذلك قبل دخول النار فقالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=27ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) ، وهذا إخبار عن حالهم قبل أن يدخلوا النار ، وقبل أن تذيب لحومهم ونفوسهم التي نشأت على الكفر ، فالخبث بعد كامن فيها ، فلو ردوا والحالة هذه لعادوا لما نهوا عنه ، والحكمة والرحمة تقتضي أن النار تأكل تلك اللحوم التي نشأت من أكل الحرام ، وتنضج تلك الجلود التي باشرت محارم الله تعالى وتطلع على الأفئدة التي أشركت به وعبدت معه غيره ، فتسليط النار على هذه القلوب والأبدان من غاية الحكمة ، حتى إذا أخذت المسألة حقها وأخذت العقوبة منهم مأخذها وعادوا إلى ما فطروا عليه ، وزال ذلك الخبث والشر الطارئ على الفطرة ، والعزيز الحكيم حينئذ حكم هو أعلم به ، وهو الفعال لما يريد .
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ كَمَا قَيَّدَ الْغَضَبَ الشَّدِيدَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ قَيَّدَ الْعَذَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=65فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=37وَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فَجَعَلَ الْعَذَابَ وَالْمَشْهَدَ وَاقِعَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ ، بَلْ جَعَلَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْعَذَابِ أَبَدًا .
nindex.php?page=treesubj&link=30431وَلَا يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ : إِنَّهُ عَمَلُ يَوْمٍ ، وَطَعَامُ يَوْمٍ ، وَعَذَابُ يَوْمٍ ، وَلَمْ يُنْتَقَصْ هَذَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=38وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ) وَلَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=19إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهُ وَاسْتِمْرَارَهُ لَا يَقْتَضِي أَبَدِيَّتَهُ لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا عَقْلًا ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ بَطْنِ الْأُمِّ أَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْجَنِينِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ) وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=98وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَقَرُّ صُلْبَ الْأَبِ وَالْمُسْتَوْدَعُ بَطْنَ الْأُمِّ أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ ، أَوْ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْبَرْزَخِ ، كَمَا هِيَ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ ، فَالْمُسْتَقَرُّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَبَدِيٌّ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَمِرُّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ .
فَاسْتِقْرَارُ كُلِّ شَيْءٍ وَاسْتِمْرَارُهُ وَدَوَامُهُ وَخُلُودُهُ وَثَبَاتُهُ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالْإِقَامَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=23لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) وَهَذَا لَا يُقَالُ فِي لُبْثٍ لَا انْتِهَاءَ لَهُ ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ
[ ص: 273 ] تَأَوَّلَهَا أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ، أَيْ لَا يَذُوقُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا : لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْبَرْدَ وَالشَّرَابَ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْأَحْقَابِ ، وَمَتَى ذَاقُوا الْبَرْدَ وَالشَّرَابَ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443يَذْكُرُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَصِفُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَفَادٍ ، يَذْكُرُ عِقَابَ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُخْبِرُ مَعَهُ أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ أَوْ يُطْلِقُهُ ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=106فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=107خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=49هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=50جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=51مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=52وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=53هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=54إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=55هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=56جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=64إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَا قَالَهُ فِي النَّعِيمِ .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ خُلُودَ أَهْلِ النَّعِيمِ فِيهِ ، فَيُقَيِّدُهُ بِالتَّأْبِيدِ ، وَيَذْكُرُ مَعَهُ خُلُودَ أَهْلِ الْعَذَابِ ، فَلَا يُقَيِّدُهُ بِالتَّأْبِيدِ ، بَلْ يُطْلِقُهُ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=6إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=8جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) .
وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) فَإِنَّ تَأْبِيدَ الْخُلُودِ فِيهَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَبَدِيَّتَهَا وَدَوَامَ بَقَائِهَا ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا مَا دَامَتْ كَذَلِكَ ، فَالْأَبَدُ اسْتِمْرَارُهُمْ فِيهَا مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ : إِنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ .
عَلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ ، كَقَوْلِهِ عَنِ
الْيَهُودِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=95وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ )
[ ص: 274 ] وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ أَبَدٌ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَإِلَّا فَهُمْ فِي النَّارِ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ حِينَ يَقُولُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) وَقَوْلُ الْعَرَبِ : لَا أَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا ، وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ شَوَاهِدُهُ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ مُدَّةً مُنْقَطِعَةً ، وَهِيَ أَبَدُ الْحَيَاةِ وَمُدَّةُ عُمُرِهِمْ ، فَهَكَذَا الْأَبَدُ فِي الْعَذَابِ هُوَ أَبَدٌ مُدَّةَ بَقَاءِ النَّارِ وَدَوَامِهَا .
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443لَوْ كَانَتْ دَارُ الشَّقَاءِ دَائِمَةً دَوَامَ دَارِ النَّعِيمِ ، وَعَذَابُ أَهْلِهَا فِيهَا مُسَاوِيًا لِنَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِدَوَامِهِ لَمْ تَكُنِ الرَّحْمَةُ غَالِبَةً لِلْغَضَبِ بَلْ يَكُونُ الْغَضَبُ قَدْ غَلَبَ الرَّحْمَةَ ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ ، وَالشَّأْنُ فِي بَيَانِ الْمُلَازَمَةِ ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَظَاهِرٌ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347271لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ " وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْمُعَذَّبِينَ فِي دَارِ الشَّقَاءِ أَضْعَافُ أَهْلِ النَّعِيمِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347272إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا آدَمُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَبْعَثَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : رَبِّي ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ " فَقَالَ الصَّحَابَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ : يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ " .
فَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ عُشْرُ عُشْرِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِالْغَضَبِ ، فَلَوْ دَامَ هَذَا الْعَذَابُ دَوَامَ النَّعِيمِ وَسَاوَاهُ فِي وُجُودِهِ لَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْغَضَبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْغَالِبَةَ فَإِنَّ غَلَبَتَهَا تَقْتَضِي نُقْصَانَ عَدَدِ الْمُعَذَّبِينَ أَوْ مُدَّتِهِمْ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّنْيَا مِثَالًا وَأُنْمُوذَجًا وَعِبْرَةً لِمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَجَعَلَ آلَامَهَا وَلَذَّاتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَمَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَرِيرِ ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنَّارِ تَذْكِرَةً وَمِثَالًا وَعِبْرَةً ، لِيَسْتَدِلَّ الْعِبَادُ بِمَا شَاهَدُوهُ عَلَى مَا أُخْبِرُوا بِهِ ، وَقَدْ أَنْزَلَ فِي هَذِهِ الدَّارِ رَحْمَتَهُ وَغَضَبَهُ ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ آثَارَ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ ، وَيَسَّرَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ أَسْبَابَ الرَّحْمَةِ ، وَلِأَهْلِ الْغَضَبِ أَسْبَابَ الْغَضَبِ ، ثُمَّ
[ ص: 275 ] جَعَلَ سُبْحَانَهُ الْغَلَبَةَ وَالْعَافِيَةَ لِمَا كَانَ عَنْ رَحْمَتِهِ ، وَجَعَلَ الِاضْمِحْلَالَ وَالزَّوَالَ لِمَا كَانَ عَنْ غَضَبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حِينِ قَامَتِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَرِثَهَا اللَّهُ وَمَنْ عَلَيْهَا أَنْ تَغْلِبَ آثَارَ غَضَبِهِ وَلَوْ فِي الْعَاقِبَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ الرَّخَاءُ الشِّدَّةَ ، وَالْعَافِيَةُ الْبَلَاءَ ، وَالْخَيْرُ وَأَهْلُهُ الشَّرَّ وَأَهْلَهُ ، وَإِنْ أُدِيلُوا أَحْيَانًا فَإِنَّ الْغَلَبَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ الثَّابِتَةَ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ ، وَآخِرُ أَمْرِ الْمُبْطِلِينَ الظَّالِمِينَ إِلَى زَوَالٍ وَهَلَاكٍ ، فَمَا قَامَ لِلشَّرِّ وَالْبَاطِلِ جَيْشٌ إِلَّا أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَقِّ جَيْشًا يَظْفَرُ بِهِ وَيَكُونُ لَهُ الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=171وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=172إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=173وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) فَكَمَا غَلَبَتِ الرَّحْمَةُ غَلَبَتْ جُنُودُنَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقْتَضَى حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَهَكَذَا فِي دَارِ الْحَقِّ الْمَحْضِ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِمَا خَلَقَ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَقَاءِ لَهَا .
وَسِرُّ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَنَّ الْخَيْرَ هُوَ الْغَالِبُ لِلشَّرِّ ، وَهُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ ، الَّذِي لَوْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ خَلْفَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ وَيُغَيِّرَهُ ، وَإِذَا كَانَتْ لِلشَّرِّ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِغَيْرِهَا قَصْدَ الْوَسَائِلِ ، فَالْخَيْرُ مَقْصُودٌ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ قَصْدَ الْغَايَاتِ .
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=30431_30443_30444قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْجَنَّةَ يَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ ، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ إِيَّاهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ كَانَ مِنْهُمْ ، مَحَبَّةً مِنْهُ لِلْجُودِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُهُ وَرَحْمَتُهُ قَدِ اقْتَضَيَا أَنْ يَدْخُلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ تَقَدُّمِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَلَا مَعْرِفَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تُدْرِكَ رَحْمَتُهُ مَنْ قَدْ أَقَرَّ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَاعْتَرَفَ بِاللَّهِ رَبِّهِ وَمَالِكِهِ ، وَاكْتَسَبَ مَا أَوْجَبَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ ، فَعَاقَبَهُ بِمَا اكْتَسَبَهُ ، وَعَرَّفَهُ حَقِيقَةَ مَا اجْتَرَحَهُ وَأَشْهَدَهُ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا مُبْطِلًا ، وَأَنَّ رُسُلَهُ هُمُ الصَّادِقُونَ الْمُحِقُّونَ ، فَشَهِدَ ذَلِكَ وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَتَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسْرَةً وَنَدَمًا ، وَأَخْرَجَتِ النَّارُ مِنْهُ خَبَثَهُ كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ .
وَلَا يُقَالُ : الْخَبَثُ لَا يُفَارِقُهُمْ وَالْإِصْرَارُ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي حُكْمِ الطَّبِيعَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ ، وَلِهَذَا فِي الدُّنْيَا لَمَّا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ تَجِدُ عُقْدَةَ الْإِصْرَارِ قَدِ انْحَلَّتْ عَنْهُمْ وَانْكَسَرَتْ نَخْوَةُ الْبَاطِلِ وَلَكِنْ لَمْ تَظْهَرْ قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ وَحْدَهُ .
[ ص: 276 ] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) فَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ فَقَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=27يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ ، وَقَبْلَ أَنْ تُذِيبَ لُحُومَهُمْ وَنُفُوسَهُمُ الَّتِي نَشَأَتْ عَلَى الْكُفْرِ ، فَالْخَبَثُ بَعْدُ كَامِنٌ فِيهَا ، فَلَوْ رُدُّوا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، وَالْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ تِلْكَ اللُّحُومَ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ ، وَتُنْضِجُ تِلْكَ الْجُلُودَ الَّتِي بَاشَرَتْ مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ الَّتِي أَشْرَكَتْ بِهِ وَعَبَدَتْ مَعَهُ غَيْرَهُ ، فَتَسْلِيطُ النَّارِ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ غَايَةِ الْحِكْمَةِ ، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْمَسْأَلَةُ حَقَّهَا وَأَخَذَتِ الْعُقُوبَةُ مِنْهُمْ مَأْخَذَهَا وَعَادُوا إِلَى مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ ، وَزَالَ ذَلِكَ الْخَبَثُ وَالشَّرُّ الطَّارِئُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حِينَئِذٍ حَكَمٌ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ .