[ ص: 47 ] ياقوت ذكر قتل
وفي هذه السنة قتل ياقوت بعسكر مكرم .
وكان سبب قتله ثقته بأبي عبد الله البريدي فخانه ، وقابل إحسانه بالإساءة على ما نذكره .
وقد ذكرنا أن أبا عبد الله ارتسم بكتابة ياقوت مع ضمان الأهواز ، فلما كتب إليه ، وثق به وعول على ما يقوله ، وكان إذا قيل له شيء في أمره وخوف من شره ، يقول : إن أبا عبد الله ليس كما تظنون ; لأنه لا يحدث نفسه بالإمرة وقود العساكر ، وإنما غايته الكتابة ، فاغتر بهذا منه .
وكان - رحمه الله - سليم القلب ، حسن الاعتقاد ، فلهذا لم يخرج عن طاعة الخليفة حين قبض على ولديه بل دام على الوفاء .
فأما حاله مع البريدي ، فإنه لما عاد مهزوما من إلى عسكر عماد الدولة بن بويه مكرم ، كتب إليه أبو عبد الله أن يقيم بعسكر مكرم ليستريح ، ويقع التدبير بعد ذلك ، وكان بالأهواز ، وهو يكره الاجتماع معه في بلد واحد ، فسمع ياقوت قوله وأقام ، فأرسل إليه أخاه أبا يوسف البريدي يتوجع له ويهنيه بالسلامة ، وقرر القاعدة على أن يحمل له أخوه من مال الأهواز خمسين ألف دينار ، واحتج بأن عنده من الجند خلقا كثيرا منهم البربر ، والشفيعية ، والنازوكية ، والبلقية ، والهارونية . كان ابن مقلة قد ميز هذه الأصناف من عسكر بغداذ وسيرهم إلى الأهواز ; ليخف عليه مؤونتهم ، فذكر أبو يوسف أن هؤلاء متى رأوا المال يخرج عنهم إليك شغبوا ، ويحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز ، ثم يصير أمرهم إلى أنهم يقصدونك ولا نعلم كيف يكون الحال ، ثم قال له : إن رجالك مع سوء أثرهم يقنعون بالقليل .
[ ص: 48 ] فصدقه ياقوت فيما قال ، وأخذ ذلك المال وفرقه ، وبقي عدة شهور لم يصله منه شيء إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين [ وثلاثمائة ] ، فضاق الرزق على أصحاب ياقوت واستغاثوا ، وذكروا ما فيه أصحاب البريدي بالأهواز من السعة ، وما هم فيه من الضيق .
وكان قد اتصل بياقوت طاهر الجيلي ، وهو من كبار أصحاب ابن بويه ، في ثمانمائة رجل ، وهو من أرباب المراتب العالية ، وممن يسمو إلى معالي الأمور .
وسبب اتصاله به خوفه من ابن بويه أن يقبض عليه خوفا منه ، فلما رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربي تستر ، وأراد أن يتغلب على ماه البصرة ، وكان معه أبو جعفر الصيمري ، وهو كاتبه ، فسمع به عماد الدولة بن عماد بن بويه فكبسه ، فانهزم هو وأصحابه واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه ، وأسر الصيمري ، فأطلقه الخياط وزير ، فمضى إلى عماد الدولة بن بويه كرمان ، واتصل بالأمير ، وكان ذلك سبب إقباله . معز الدولة أبي الحسن بن بويه
فلما سار طاهر من عند ياقوت ، ضعفت نفسه واستطال عليه أصحابه ، فخافهم وراسل البريدي وعرفه ما هو فيه ، وأعلمه أن معوله على ما يدبره به ، فأنفذ إليه البريدي يقول : إن عسكرك قد فسدوا ، وفيهم من ينبغي أن يخرج ، والرأي أن ينفذهم إليه ليستصلحهم ، فإنه له أشغال تمنعه أن يحضر عنده ، ولو حضر عنده والجند مجتمعون ، لم يتمكن من الانتصاف منهم ; لأنهم يظاهر بعضهم بعضا ، وإذا حضروا عنده بالأهواز متفرقين ، فعل بهم ما أراد ولا يمكنهم خلافه .
ففعل ذلك ياقوت ، وأنفذ أصحابه إليه ، فاختار منهم من أراد لنفسه ، ورد من لا خير فيه إلى ياقوت ، ( بعد أن كسرهم وأسقط من أرزاقهم ، فقيل ذلك لياقوت ) ، فأشير عليه بمعاجلة البريدي قبل أن يستفحل أمره ، فلم يلتفت وقال : جعلتهم عنده عدة لي .
[ ص: 49 ] وأحسن البريدي إلى من عنده من الجند ، فقال أصحاب ياقوت له في ذلك ، وطلبوا أرزاقهم التي قررها البريدي ، فكتب إليه فلم ينفذ شيئا ، فراجعه فلم ينفذ شيئا ، فسار ياقوت إليه جريدة لئلا يستوحش منه ، فلما بلغه ذلك خرج إلى لقائه ، وقبل يده وقدمه ، وأنزله داره وقام بين يديه ، وقدم بنفسه الطعام ليأكل .
وكان قد وضع الجند على إثارة الفتنة ، فحضروا الباب وشغبوا واستغاثوا ، فسأل ياقوت عن الخبر ، فقيل له : إن الجند بالأبواب قد شغبوا ، ويقولون : قد اصطلح ياقوت والبريدي ، ولا بد لنا من قتل ياقوت ، فقال له البريدي : قد ترى ما دفعنا إليه ، فانج بنفسك وإلا قتلنا جميعا ، فخرج من باب آخر خائفا يترقب ، ولم يفاتح البريدي بكلمة واحدة ، وعاد إلى عسكر مكرم ، فكتب إليه البريدي يقول له : إن العسكر الذين شغبوا قد اجتهدت في إصلاحهم وعجزت عن ذلك ، ولست آمنهم أن يقصدوك ، وبين عسكر مكرم والأهواز ثمانية فراسخ ، والرأي أن تتأخر إلى تستر لتبعد عنهم ، وهي حصينة ، وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار .
فسار ياقوت إليها ، وكان له خادم اسمه مؤنس ، فقال : أيها الأمير ، إن البريدي [ يحز مفاصلنا ] ويفعل بنا ما ترى ، وأنت مغتر به ، ( وهو الذي وضع الجند بالأهواز حتى فعلوا ذلك ) ، وقد شرع في إبعادك بعد أن أخذ وجوه أصحابك ، ( وقد أطلق لك ) ما لا يقوم بأود أصحابك الذين عندك ، وما أعطاك ذلك أيضا إلا حتى تتبلغ به ، وتضيق الأرزاق علينا ، ويفنى ما لنا من دابة وعدة فننصرف عنك على أقبح حال ، فحينئذ يبلغ منك ما يريده ، فاحفظ نفسك منه ولا تأمنه ، ولم يثق للجند الحجرية ببغداذ شيخ غيرك ، وقد كاتبوك فسر إليهم ، فكل من ببغداذ يسلم إليك الرئاسة ، فإن فعلت ، وإلا فسر بنا إلى الأهواز ; لنطرد البريدي عنها ، وإن كان أكثر منا ، فأنت أمير وهو كاتب .
فقال : لا تقل في أبي عبد الله هذا ، فلو كان لي أخ ما زاد على محبته .
[ ص: 50 ] ثم إن ياقوتا ظهر منه ما يدل على ضعفه وعجزه عن البريدي ، فضعفت نفوس أصحابه ، وصار كل ليلة يمضي منهم طائفة إلى البريدي ، فإذا قيل ذلك لياقوت ، يقول : إلى كاتبي يمضون ، فلم يزل كذلك حتى بقي في ثمانمائة رجل .
ثم إن الراضي قبض على المظفر بن ياقوت في جمادى الأولى ، وسجنه أسبوعا ثم أطلقه وسيره إلى أبيه ، فلما اجتمع به بتستر أشار عليه بالمسير إلى بغداذ ، فإن دخلها ، فقد حصل له ما يريد ، وإلا سار إلى الموصل وديار ربيعة فاستولى عليها ، فلم يسمع منه ، ففارقه ولده إلى البريدي ، فأكرمه وجعل موكلين يحفظونه .
ثم إن البريدي خاف من عنده من أصحاب ياقوت أن يعاودوا الميل والعصبية له ، وينادوا بشعاره فيهلك ، فأرسل إلى ياقوت يقول له : إن كتاب الخليفة ورد علي يأمرني أن لا أتركك تقيم بهذه البلاد ، وما يمكنني مخالفة السلطان ، وقد أمرني أن أخيرك إما أن تمضي إلى حضرته في خمسة عشر غلاما ، وإما إلى بلاد الجبل ليوليك بعض الأعمال ، فإن خرجت طائعا ، وإلا أخرجتك قهرا .
فلما وصلت الرسالة إلى ياقوت تحير في أمره ، واستشار مؤنسا غلامه ، فقال له : قد نهيتك عن البريدي وما سمعت ، وما بقي للرأي وجه ، فكتب ياقوت يستمهله شهرا ليتأهب ، وعلم حينئذ خبث البريدي حيث لا ينفعه علمه .
فلما وصل كتاب ياقوت يطلب المهلة ، أجابه أنه لا سبيل إلى المهلة ، وسير العساكر من الأهواز إليه ، فأرسل ياقوت الجواسيس ليأتوه بالأخبار ، فظفر البريدي بجاسوس ، فأعطاه مالا على أن يعود إلى ياقوت ويخبره أن البريدي وأصحابه قد وافوا عسكر مكرم ، ونزلوا في الدور متفرقين مطمئنين ، فمضى الجاسوس وأخبر ياقوتا بذلك ، فأحضر مؤنسا وقال : قد ظفرنا بعدونا وكافر نعمتنا ، وأخبره بما قال الجاسوس ، وقال : نسير من تستر العتمة ، ونصبح عسكر مكرم وهم غارون ، فنكبسهم في الدور ، فإن وقع البريدي فالله مشكور ، وإن هرب اتبعناه .
فقال مؤنس : ما أحسن هذا إن صح ، وإن كان الجاسوس صادقا ، فقال ياقوت : إنه يحبني ويتولاني وهو صادق ، فسار ياقوت فوصل إلى عسكر مكرم طلوع الشمس ، فلم ير للعسكر أثرا ، فعبر البلد إلى نهار جارود ، وخيم هناك ، وبقي يومه ولا يرى لعسكر البريدي أثرا ، فقال له مؤنس : إن الجاسوس كذبنا ، وأنت تسمع كلام الكاذبين ، وإنني خائف عليك .
[ ص: 51 ] فلما كان بعد العصر ، أقبلت عساكر البريدي ، فنزلوا على فرسخ من ياقوت ، وحجز بينهم الليل وأصبحوا الغد ، فكانت بينهم مناوشة ، واتعدوا للحرب الغد .
وكان البريدي قد سير عسكرا من طريق أخرى ليصيروا وراء ياقوت من حيث لا يشعر ، فيكون كمينا يظهر عند القتال فهم ينتظرونه ، فلما كان الموعد باكروا بالقتال ، فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر ، وكان عسكر البريدي قد أشرف على الهزيمة مع كثرتهم ، وكان مقدمهم أبا جعفر الحمال . فلما جاء الظهر ، ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت ، فرد إليهم مؤنسا في ثلاثمائة رجل ، فقاتلهم وهم في ثلاثة آلاف رجل ، فعاد مؤنس منهزما ، فحينئذ انهزم أصحاب ياقوت ، وكانوا سوى الثلاثمائة خمسمائة ، فلما رأى ياقوت ذلك نزل عن دابته ، وألقى سلاحه ، وجلس بقميص إلى جانب جدار رباط . ولو دخل الرباط واستتر فيه لخفي أمره ، وكان أدركه الليل ، فربما سلم ، ولكن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ، وكان أمر الله قدرا مقدورا .
فلما جلس مع الحائط غطى وجهه بكمه ، ومد يده كأنه يتصدق ويستحيي [ أن ] يكشف وجهه ، فمر به قوم من البربر من أصحاب البريدي فأنكروه ، فأمروه بكشف وجهه فامتنع ، فنخسه أحدهم بمزراق معه ، فكشف وجهه وقال : أنا ياقوت ، فما تريدون مني ؟ احملوني إلى البريدي ، فاجتمعوا عليه فقتلوه ، وحملوا رأسه إلى العسكر ، وكتب أبو جعفر الحمال كتابا إلى البريدي على جناح طائر يستأذنه في حمل رأسه ( إلى العسكر ) ، فأعاد الجواب بإعادة الرأس إلى الجثة وتكفينه ودفنه ، وأسر غلامه مؤنس وغيره من قواده فقتلوا ، وأرسل البريدي إلى تستر فحمل ما فيها لياقوت من جوار ومال وغير ذلك ، فلم يظهر لياقوت غير اثني [ عشر ] ألف دينار ، فحمل الجميع إليه ، وقبض على المظفر بن ياقوت ، فبقي في حبس البريدي مدة ثم نفذه إلى بغداذ .
[ ص: 52 ] وتجبر البريدي بعد ياقوت وعصى ، وقد أطلنا في ذكر هذه الحادثة ، وإنما ذكرناها على طولها لما فيها من الأسباب المحرضة على الاحتياط والاحتراز ، فإنها من أولها إلى آخرها فيها تجارب وأمور يكثر وقوع مثلها .