الحكم التاسع : أن ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمس [ ص: 223 ] طيبا ، مع شهادته له أنه يبعث ملبيا ، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب . المحرم ممنوع من الطيب
وفي " الصحيحين " : من حديث " ابن عمر ". لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه ورس أو زعفران
وأمر الذي أحرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق ، أن تنزع عنه الجبة ، ويغسل عنه أثر الخلوق . فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدار منع المحرم من الطيب . وأصرحها : هذه القصة ، فإن النهي في الحديثين الأخيرين إنما هو عن نوع خاص من الطيب لا سيما الخلوق ، فإن النهي عنه عام في الإحرام وغيره .
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يقرب طيبا ، أو يمس به تناول ذلك الرأس والبدن والثياب وأما شمه من غير مس فإنما حرمه من حرمه بالقياس ، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه ، يجب المصير إليه ، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل ، فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب ، كما يحرم النظر إلى الأجنبية ؛ لأنه وسيلة إلى غيره ، وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة ، أو المصلحة الراجحة ، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة ، والمخطوبة ، ومن شهد عليها ، أو يعاملها ، أو يطبها .
وعلى هذا ، فإنما للترفه ، واللذة ، فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه ، أو شمه قصدا لاستعلامه عند شرائه ، لم يمنع منه ، ولم يجب عليه سد أنفه ، فالأول بمنزلة نظر الفجأة ، والثاني : بمنزلة نظر المستام والخاطب ، ومما يوضح هذا ، أن الذين أباحوا للمحرم يمنع المحرم من قصد شم الطيب منهم من صرح بإباحة تعمد شمه بعد الإحرام ، صرح بذلك أصحاب استدامة الطيب قبل الإحرام فقالوا : في"جوامع الفقه" أبي حنيفة لأبي يوسف : لا بأس بأن يشم طيبا تطيب به قبل إحرامه ، قال : [ ص: 224 ] صاحب " المفيد " : إن الطيب يتصل به فيصير تبعا له ؛ ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه ، فيصير كالسحور في حق الصائم ، يدفع به أذى الجوع والعطش في الصوم ، بخلاف الثوب فإنه بائن عنه .
وقد اختلف الفقهاء ، هل هو ممنوع من استدامته كما هو ممنوع من ابتدائه أو يجوز له استدامته ؟ على قولين .
فمذهب الجمهور : جواز استدامته اتباعا لما ثبت بالسنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتطيب قبل إحرامه ، ثم يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه ، وفي لفظ "وهو يلبي" وفي لفظ " بعد ثلاث " . وكل هذا يدفع التأويل الباطل الذي تأوله من قال : إن ذلك كان قبل الإحرام فلما اغتسل ذهب أثره . وفي لفظ : ، ولله ما يصنع التقليد ، ونصرة الآراء بأصحابه . كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ، ثم يرى ، وبيص الطيب في رأسه ، ولحيته بعد ذلك
وقال آخرون منهم : إن ذلك كان مختصا به ، ويرد هذا أمران ، أحدهما : أن دعوى الاختصاص لا تسمع إلا بدليل .
والثاني : ما رواه أبو داود ، عن ، ( عائشة مكة ، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا ، سال على وجهها ، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا ) . كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى